الحرير في سورية الحرير في سورية : تاريخه، تقنياته، وضعه الحالي وميزاته الاجتماعية
تمهيد السؤال الأول الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ هو لماذا هذا الموضوع بالذات؟ ولقد سئلت عدة مرات هذا السؤال ولذلك أراني مهتمة بتسجيل الجواب في هذا التمهيد. تميزت سورية منذ القديم بصناعة النسيج، وازدهرت فيها بشكل خاص صناعة الحرير في إحدى فترات هذا القرن. وصناعة النسيج بشكل عام والحرير بشكل خاص هي صناعة يدوية ميزت شعب هذه البلاد على مدى قرون من الزمن. فعندما نذكر كلمة (بروكار) أو (دامسكو) مثلاً، يتبادر إلى الأذهان مباشرة اسم دمشق وسورية أي أن هذه الصناعات اليدوية الدقيقة أصبحت جزءاً مميزاً لتراث هذه البلاد. وبما أننا في عصر تميز بالسرعة التي لاتتلاءم مطلقاً مع دقة الصناعات اليدوية واعتمادها على العنصر البشري اعتماداً كاملاً وعلى فنه وإبداعه الإنساني، فإن هذه الصناعات اليدوية قد بدأت تنقرض في بلادنا حيث حلّت الآلة محل اليد العاملة، فطورت في تلك الصناعة وأحدثت فيها تغيرات كثيرة. لقد بحثت فوجدت أن صناعة الحرير في سورية غير موثقة بشكل كامل، فخطرت لي فكرة توثيق هذه الصناعة أو بالأَحرى ما تبقى منها، لأنها بدأت بالانقراض شأنها شأن الصناعات اليدوية الأُخرى، بهدف تعريف الأجيال القادمة على صناعاتها اليدوية في فترات ازدهارها ونكساتها، وحفاظاً عليها من الاندثار بالتوثيق، وكلنا يعلم أهمية التوثيق منذ بدء الخليقة وحتى الآن. التوثيق هو الذي حافظ على تراث الشعوب التي تعاقبت على التاريخ الإنساني. فالتراث الثقافي والفني لبلد ما هو النتاج المادي والفكري الذى تركه السلف للخلف، والذى يؤدي دوراً أساسياً في تكوين شخصية الخلف في عقله الباطن ونمط تفكيره وسلوكه الظاهر. وهكذا نفهم التراث على أنه من صنع الإنسان ونتاج النشاط الإنساني الواعي والمشترك في مراحل تاريخية متعاقبة. دور التراث كبير في الحفاظ على شخصية الشعوب وتثبيت هويتها. وكم من شعب تعرّض للإبادة (الهنود الحمر) أو تعرّض للاحتلال الاستيطاني، وكان هدف المحتل محو تاريخه بتغيير ملامح بلاده (تهويد فلسطين والقدس بشكل خاص). إلا أن التراث الثقافي لهذه الشعوب والذي تشكل الصناعات اليدوية جزءاً هاماً منه، قد وقف بوجه تلك المحاولات وأثبت أن هذه الشعوب التي خلقت تلك الصناعات اليدوية الدقيقة هي شعوب ذات تاريخ عريق وحضارة راسخة. وهنا يمكننا أن نعود إلى المثال الذى طرحته سابقاً وهو صناعة البروكار والدامسكو، وهما نوعان من الأقمشة أساسها الحرير الطبيعي المنتشر في كل أنحاء العالم إلا أنهما يميزان سورية ودمشق بالذات التي اشتهرت بهذه الصناعة. لذلك نجدهما واردين في الموسوعات العامة كنوعين من القماش يميزان بلادي. فشهرتهما إذاً على المستوى الإقليمي والعالمي معروفة مما دعا ملكة بريطانيا الحالية إليزابيت الثانية إلى اتخاذ البروكار السوري المصنوع في دمشق بالذات لثوب زفافها في العام 1947.
مقدمة هناك اتجاهات ثلاثة رئيسية لطريق الحرير : الأول الذى يربط الصين بالهند وجنوب شرق آسيا والثاني الذى يربط الدول الآسيوية القديمة بأوروبا والثالث هو الطريق الجنوبي لعبور القوافل بين الصين وغرب آسيا والذى اشتهر باسم (طريق الحرير). وهناك طرق فرعية أيضاً مرتبطة بطريق الحرير أهمها بالنسبة لنا هو الفرع الذى يتجه نحو الجنوب الغربي أي إلى بلاد فارس والرافدين وبلاد الشام. ويتجه أحد هذه الفروع نحو مدينة تدمر في بادية الشام التي كانت على الدوام مركزاً تجارياً متقدماً بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. ويؤكد المختصون على أهمية تدمر بقولهم : "كانت تدمر نقطة التقاء الجميع وحافظت على غناها وازدهارها التجاري مئات السنين بل كانت أغنى وأجمل المدن المعروفة على طريق الحرير الغربي، وهذا ماتؤيده الآثار العظيمة التي لاتزال حتى الآن بادية فيها..." وتقدر المسافة التي كانت تقطعها القوافل بين عاصمة الصين وتدمر بمسيرة سنوات للذهاب والإياب. وهذه مسافة قصيرة في ظروف ذلك الزمن لقرب تدمر من مراكز التجارة الأخرى في جنوب الأناضول والبحر المتوسط والبتراء والبحر الأحمر في الطريق إلى الاسكندرية. الاتجاه الرئيسي في طريق الحرير هو المحور الذى يتجه في البر من سورية، وهي الدولة الأكثر نشاطاً والتي تشكل مفترق الطرق التجارية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. ففيها دمشق، المنفذ الرئيسي إلى بلاد الحجاز ومصر، وأنطاكية واسكندرونة التي تسلم بضائع آسيا إلى مراكب البحر المتوسط لنقلها إلى جنوة والبندقية .... وفيها تدمر التي تتجه بأبوابها الشرقية إلى بلاد الرافدين... ويرجح أن النشاط التجاري بين مشارق آسيا ومغاربها يعود في جذوره إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهو التاريخ المقبول لنشوء طريق الحرير الذي دام استخدامه حتى القرن الثامن ميلادي أي نحو ألف سنة. ولئن كان مصدر دودة القز أو دودة الحرير من جبال أسام في شمال الهند ومن بلاد البنغال، فإنه في شمال الصين تعلم الانسان لأول مرة كيف ينسج خيوط الحرير من الشرنقة. وقد تم هذا الإنجاز العظيم في تاريخ الحضارة الإنسانية في حوض نهر تاريم. وحتى القرن التاسع الميلادي، كانت لفائف الحرير تستخدم كالنقد في التبادل الرسمي مع القصور في الصين. بقيت شعوب الشرق الأقصى تحتكر صناعة الحرير وتصدره لتجني الأرباح الوفيرة من تجارته في العصور القديمة إلى أن تعرفت الشعوب الأخرى على هذه المادة الثمينة، فانتقلت إلى العالم اليوناني، – الروماني ثم انتقلت تجارته إلى أيدي العرب في العصور الوسطى، وبقي في أيديهم حتى الحروب الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي. كان التجار السوريون ينطلقون من أنطاكية عاصمة سورية الرومانية، على المجرى الأسفل لنهر العاصي باتجاه الشرق مارين بحلب ثم يجتازون الفرات عند هيرابوليس (جرابلس) ثم يعبرون أراضي الجزيرة ويتجهون إلى إيران ويمرون بساحل بحر قزوين ومن هناك إلى هضبة بامير. في هذه المنطقة كان يلتقي التجار المشرقيون والصينيون لتبادل البضائع : وأهمها الحرير من الصين. أما الطريق البرية من الصين إلى الغرب فكانت تنطلق من شمال الصين غرباً إلى آسية الوسطى وأحد فروعها يتجه إلى دورا أوربوس (الصالحية على الفرات) باتجاه تدمر وأنطاكية. في العصر الهلنستي السلوقي وفي العصر الروماني أضحت أنطاكية هي نهاية المطاف، تنتهي إليها طرق القوافل القادمة من الخليج العربي وحضرموت وعدن عن طريق الوسطاء الأنباط ثم التدمريين. وفي العصر الهلنستي استطاعت تدمر أن تستجلب إليها خطوط القوافل لتكون محطة بين الفرات من جهة وحمص وأنطاكية من جهة أخرى. موقع تدمر المتميز في قلب بادية الشام في منتصف الطريق بين مدن حوض الفرات شرقاً ومدن الساحل السوري غرباً، جعل طريق الحرير العالمي عبر تدمر هي الطريق الأقصر مسافة والأكثر سهولة وأمناً للقوافل التجارية. في الفترة الرومانية، نجد أن طرق التجارة مع الشرق الأقصى ولاسيما تجارة الحرير، سلكت ثلاثة مسارات باتجاه الاسكندرية وبترا وتدمر. ولكن بسقوط زنوبيا واحتلال أورليان لتدمر، فقدت هذه الأخيرة دورها التجاري. تعتبر الصين إذاً من أقدم دول العالم في صناعة الحرير حيث عرفها الصينيون في الألف الثالث قبل الميلاد. وازدهرت الصناعة في عهد الامبراطورة سي لنغ شي زوجة الامبراطور هوانغ تي. وقد حرّم الامبراطور نقل بيوض فراشات دودة الحرير خارج الصين وكان يعاقب بالإعدام كل من يحاول تهريب البيوض أو بذور التوت إلى الخارج. احتفظ الصينيون بسر صناعة الحرير لمدة ثلاثة آلاف سنة ثم انتقلت هذه الصناعة إلى اليابان خلال القرن الثالث قبل الميلاد عندما هاجر عن طريق كوريا إلى اليابان عدد كبير من صنّاع الحرير الذين ساهموا في نقل هذه الصناعة إلى اليابانيين. واستمرت اليابان في صناعة الحرير حتى عصرنا هذا، إذ تعتبر الآن من أهم الدول المنتجة له. وفي حوالي العام 555 ميلادي انتقلت صناعة الحرير من الهند إلى الشرق الأوسط على يد رهبان نسطوريين تمكنوا في أثناء وجودهم في الهند من دراسة أسرار صناعة الحرير، وبعد عودتهم إلى القسطنطينية يقال بأنهم قاموا بتهريب بيوض فراشة الحرير. وانتشرت هذه الصناعة في الشرق الأوسط واليونان والبحر الأسود ولبنان وسورية وفلسطين والعراق ومصر. وقد شجع العرب زراعة التوت وتربية دودة القز حيث سنّوا القوانين لحمايتها فانتشرت معامل صناعة الحرير في عدد من المدن العربية وخصوصاً دمشق وأصبح الحرير السوري يضاهي الصيني جودة وإتقاناً. كما ساهم العرب في إدخال صناعة الحرير إلى أوروبا عن طريق الأندلس. فقد قام الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان بإنشاء معمل لنسج الحرير في قصره بدمشق في العام ويقال بأن أحد فرسان الصليبيين ويدعى سانت أوبون SAINT AUBON قد أخذ من سورية شتلة توت في العام 1147 ونقلها إلى فرنسا وزرعها هناك وكانت أول شجرة توت تزرع في فرنسا. وأثناء السيطرة المملوكية ثم العثمانية، كانت دمشق تشتهر بإنتاج الحرير وكان يحاك منه أكثر من 40 صنفاً. في أواخر العهد الأيوبي وخلال العهد المملوكي الأول نجد إنتاج الحرير بكثرة وخاصة الحرير المقصب. في العصر الحديث، انتشر الحرير بكثرة في القرن السابع عشر زمن الدولة المعنية في لبنان. وقد كان لبنان سباقاً في فن تربية دودة القز، وجاءت من لبنان بعض العائلات لتعليم أهالي منطقة عيون الوادي تربية دودة الحرير. وما زالت تلك العائلات في هذه المنطقة. وازدهرت هذه الصناعة في تلك القرون وحتى القرن العشرين، إلا أن الحرير أصيب بعدة نكسات. وتميزت منطقة الجبال الغربية القريبة من الساحل السوري، والمنطقة التي تمتد على نهر العاصي بتربية دودة القز فيما مضى وحتى الآن. أما في القرن الثامن عشر فقد أصيبت تجارة الحرير بنكسة كبيرة، حيث فرضت الحكومة العثمانية ضرائب باهظة عليها، فكسد سوقها. واقتصرت مشتريات التجار الإفرنج على الأنسجة الحريرية التي كانت أنوال المدن السورية تنتجها ولم يعودوا يشترون خام الحرير من بلاد الشام. وفي القرن التاسع عشر (العام 1870) كان عدد الأنوال في دمشق (3000 نول) وفي حلب (6000 نول)، أما عدد العاملين في نسج الحرير فكان (20000 عامل) في دمشق و(30000 عامل) في حلب. وقد أدى زلزال العام 1822 ووباء الطاعون العام 1828 والكوليرا 1832 إلى قتل عدد كبير من سكان حلب؛ ومن (12000نول) لحياكة الحرير كانت في حلب لم يبق أكثر من (1000نول) فقط. ثم تراجعت هذه الصناعة حتى بلغت الحد الأدنى لها في بداية القرن العشرين؛ حيث كان أكثر من 90% من حرائر سورية يذهب إلى فرنسا عن طريق مرفأ بيروت ثم مرفأ مرسيليا. وقد توزعت زراعة التوت في المناطق السورية الغربية : جبل لبنان – البقاع – ضواحي المدن الساحلية. وتراجع إنتاج الحرير بعد الحرب العالمية الأولى وارتفعت أسعار منسوجاته بما يعادل ثلاثة أضعاف ما كانت عليه. أما بالنسبة للمرافئ في سورية في العشرينات، فقد كانت ثلاثة وهي مرفأ بيروت ومرفأ حيفا ومرفأ اسكندرونة؛ وهذا الأخير كان المنفذ الطبيعي لأنطاكية وحلب والموصل ... إلخ. اذاً ازدهرت صناعة الحرير ما بين السنوات 1920 و1926 حيث كان يتم تصريف خيط الحرير السوري الجيد على شكل شرانق إلى مدينة ليون الفرنسية التي كانت تشتهر بصناعة الحرير. وفي أثناء الانتداب الفرنسي في الثلاثينات أصيب الحرير في سورية بنكسة، حيث كانت هناك أزمة اقتصادية عالمية، فأفلس أناس كثيرون ومنهم من كان يعمل في الحرير. في أثناء الحرب العالمية الثانية، عادت صناعة الحرير في سورية إلى الانتعاش الضئيل حيث استخدمت خيوط الحرير لصناعة المظلات للطيارين. ثم عادت وازدهرت صناعة الحرير أثناء الوحدة بين سورية ومصر 1958-1961 حيث كانت مصر سوقاً لتصريف الحرير السوري. وجاء الانفصال، فتراجع سوق الحرير. في الوقت الحاضر، ارتفعت أسعار اليد العاملة، فساهمت في تراجع تربية دودة الحرير في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، وتركزت تربية الحرير في بلاد الشرق الأقصى حيث اليد العاملة رخيصة (الصين – اليابان – كوريا) كما أنها رخيصة في الهند وإيران وتركيا. أيام التكامل الاقتصادي بين سورية ولبنان، كانت سورية تنتج حوالي 9 ملايين أقة من الشرانق (الأقة= 1،25 كغ) واستمر هذا الوضع إلى الأربعينات. إلا أن زراعة التفاح والموز كثرت في لبنان، فقطع الفلاحون أشجار التوت القوية الجبارة والمقاومة لكافة العوامل الطبيعية وزرعوا عوضاً عنها التفاح والموز. وانتقلت عدوى زراعة التفاح إلى سورية وإلى قرى عيون الوادي والمشتى ومصياف وغيرها، فهبطت نسبة إنتاج الشرانق في سورية. كما أن الحرب الأهلية في لبنان أثرت على تربية دودة الحرير هناك وبالتالي تضاءل الإنتاج وارتفع ثمن الحرير بشكل كبير في لبنان. أما النكسات المتكررة التي أصابت صناعة الحرير في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فترجع إلى دخول اللباس الأوروبي للشرق وتراجع اللباس التقليدي المصنوع من الحرير الصافي وغيره بالإضافة إلى دخول الأنوال الآلية في بدايات هذا القرن، مما أدى إلى تراجع عدد الأنوال اليدوية وبالتالي تهميش هذه الصناعة اليدوية شيئاً فشيئاً. ومن أجل مواجهة منافسة المنتجات الأوروبية، ظهر في دمشق صناعات دقيقة من الحرير مثل البروكار، هذا القماش المصنوع من الحرير الطبيعي وخيوط الذهب (القصب). بينما أصبحت المدن السورية الأخرى مثل حلب وحمص وحماة تنتج أنواعاً من الأقمشة الحريرية البسيطة ورخيصة الثمن نسبياً فوسّعت بذلك السوق الداخلية، حيث أن معظم زبائنها كانوا من القرى المجاورة لهذه المدن الثلاث وهذا ما حصل منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن كان من الملاحظ أن الصناعة اليدوية بدأت تتراجع بشكل عام وبالأخص النسيجية منها والحرير أيضاً. وجدير بالذكر أنه من أهم القوافل التجارية في سورية أثناء الفترة العثمانية مثلاً كانت تلك التي تنطلق من دمشق إلى الحج في مكة والمدينة (محمل الحج). وبذلك كانت المنتوجات السورية التقليدية من الحرير وغيرها تنتقل مع الحجاج إلى العراق وإيران والخليج والأراضي المقدسة في السعودية الحالية. الحرير الطبيعي يعتبر الحرير الطبيعي الناتج من دودة القز أفضل الألياف الطبيعية الحيوانية وأغلاها ثمناً وأحسنها استعمالاً. وهي خيوط تفرزها دودة القز من فمها، وعرضها حوالي 30 ميكرون، ونحتاج إلى 3500 أو 4500 م منها ليصبح وزنها غراماً واحداً. تربى دودة القز في سورية وأنطاكية الآن في موسمين : الأول ربيعي والثاني خريفي. أما المناطق التي تربي دودة القز في بلادنا، فهي قرى سلسلة الجبال الغربية والمحاذية لنهر العاصي.
الطريقة التقليدية في حلّ الحرير بادئ ذي بدء، يتم تجفيف الشرانق أو ما يسمى بعملية الخنق وذلك لقتل الدودة داخل الشرنقة. تعرّض الشرانق إلى بخار ماء يغلي لعدة ساعات تتراوح بين 5 إلى 10 ساعات. توضع الشرانق في حوض كبير يحوي ماء مغلياً، ويقوم الرجل الذي يحل هذه الشرانق بضربها بواسطة عصا طويلة. وعندها تبدأ أطراف الخيوط بالظهور، فيقربها من فرضة فتصبح خيطاً واحداً يمر إلى بكرة وهذه متصلة بدورها بدولاب خشبي يعمل على تدويره صبي صغير أو فتاة أو سيدة. وتمر الخيوط على هذا الدولاب الكبير، لتصبح شلة واحدة، تؤخذ أطراف الخيوط بالعصا من 45 إلى 60 شرنقة، ويستطيع عامل الحل أن يعرف عدد الشرانق بإحساس اليد وليس بعدّها. يبلغ طول الشلة 20 كم من أول طرف الخيط إلى آخره. اشتهرت العاصمة السورية دمشق بأنواع معينة ومتميزة من الأقمشة المصنوعة من الحرير؛ أهمها البروكار – الدامسكو – الصايا – الأغباني وغيرها ...
البروكار : في العصر الحديث، كان السيد أنطون مزنر (وهو ملك البروكار كما يسميه التجار وصناع النول في دمشق) هو أول من بدأ بترويج صناعة البروكار في دمشق. وكان معمله في دمشق لهذه الصناعة، حيث تأسس في العام 1890 في باب شرقي (شرق دمشق). وقد علّم السيد مزنر أكراد دمشق الذين اشتهروا بالحياكة على الأنوال اليدوية، وكان حيهم في دمشق مليئاً بهذه الأنوال، حياكة البروكار على الأنوال اليدوية وجعلهم يعملون في مصنعه. ثم في العام 1910، أدخل السيد أنطون مزنر الأنوال الآلية إلى دمشق وكان أول من أدخلها مرفقة بآلة الجاكار التي حلّت في النول الآلي محل المداويس في النول اليدوي لحياكة النقش والرسوم. أما تاريخياً في دمشق، فقد عرفت صناعة البروكار منذ القرن الحادي عشر وكانت تستخدم الخيوط القطنية؛ ثم أخذت هذه الصناعة بالنمو تدريجياً فحلّت خيوط الحرير الطبيعي محل خيوط القطن. وتوقفت هذه الصناعة خلال القرن الثامن عشر ثم عادت في أواخر القرن التاسع عشر. وقد حاول الغربيون تقليد هذه الصناعة إلا أنهم فشلوا واحتفظت دمشق بشهرة منسوجاتها الحريرية المذهبة الخفيفة. وقد ساعد إدخال خيوط الذهب والفضة في نسيج البروكار على تطوير هذه الصناعة. ولقد ذكر الإدريسي "أن دمشق كانت في عصره جامعة لصنوف من المحاسن وضروب من الصناعات وأنواع من السيب الحريرية كالخز والديباج النفيس الثمين العجيب الصنعة والعديم المثال، والذي يحمل منها إلى كل بلد..." فدمشق شهيرة بصناعتها النسيجية الجيدة الراقية، وقد كانت القيميرية تدعى بالهند الصغرى.
مراحل تصنيع خيط الحريريأخذ التاجر أو الصانع شلل الحرير الخام ويبعث بها إلى : 1- الفتال يقوم بكرّ الشلل خيوطاً على بكرات خشبية، ثم تؤخذ هذه البكرات للزوي، وهي عملية تجمع الخيوط من بكرتين أو أكثر على بكرة واحدة. أي أن الخيط بعد عملية الزوي يصبح مثنى أو ثلاثياً أو رباعياً....ألخ. ثم تبرم هذه الخيوط المزوية على آلة البرم أو الفتل، حيث تفتل هذه الخيوط الثنائية أو الثلاثية على بعضها البعض لتصبح على هيئة خيط واحد مبروم وقوي مما يمتن خيط الحرير. تبرم عادة خيوط السدى حوالي 400 أو 500 برمة. أما خيوط الحدف أو اللحمة فتبرم أقل من 250 برمة. 2- المسدّي : وهو الشخص المسؤول عن تحضير السدى أي الخيوط الطولانية للقماش. 3- الصباغ : تؤخذ الشلل إلى الصباغ حيث يقوم بعملية القصارة؛ وقد يكون هناك شخص يدعى القصار أي أنه مختص فقط بالقصارة. والقصارة هي عبارة عن معالجة الحرير الخام بوضعه بحوض ماء يغلي مضاف إليه صابون ومادة الصودا (كربونات) ويبقى الحرير في هذا الحوض لمدة ساعتين أو أكثر ثم يغسل بماء عادي ويعصر. وتصبح بعد ذلك شلل الحرير أكثر بياضاً ولمعاناً، حيث تزول عنها المادة الصمغية؛ وينقص وزن الحرير الطبيعي بعد هذه العملية حوالي 25% من وزنه. ثم تبدأ عملية الصباغة، وحتى الآن لم تزل الصباغة تتم بشكل يدوي في دمشق وحمص وحلب للحرير الطبيعي. 4- المزيك : يأخذ شقة الحرير الطبيعي التي ستصبح خيوطاً للسدى من الصباغ ويقوم بتغطيسها بالنشاء المحلول في الماء والمضاف إليه الصمغ المأخوذ من أشجار اللوزيات؛ وفي دمشق يضيفون سكر نبات والغراء للحرير الطبيعي. تستمر عملية التغطيس حوالي 5 دقائق فقط في هذه المواد، ثم تعصر شقة الحرير. ثم بعد ذلك يقوم المزيك بلف الشقة على الملف الخشبي على شكل كرة متطاولة. في الصباح الباكر، أي في الثالثة صباحاً، يذهب المزيك بصحبة كراته الحريرية إلى منطقة بعيدة عن العمار المدني وفيها مكان فسيح، وجدار طويل. يغرس في هذا الجدار أخشاب تسمى تعاليق، وذلك بشكل يتعامد مع الجدار، أي بطول حوالي 60 متراً. ويكرر هذه العملية ذهاباً وإياباً حتى ينشر كل الخيوط الملفوفة على الملف. ثم يبدأ ما نسميه عملية البز وهي إبعاد الخيوط بعضها عن بعض بأصابعه، كي لا تلتصق ببعضها نتيجة عملية التغطيس أو التخشين. تفيد عملية التغطيس أو التخشين في تقوية خيوط السدى وتمتينها، حيث إنها تتحمل ضربات المشط عليها عند تركيبها على النول. أما خيوط الحدف أو اللحمة فلا تحتاج للتخشين لأنها محمية في المكوك. بعد الجفاف التام، وانتهاء عملية البز، يعود المزيك فيلف خيوط السدى على الملف ويعود بها. 5- الملقي : كلمة الملقي تعني تشابك خيوط السدى مع النير في النول لتحضير الحياكة. الرسوم المستخدمة في نسيج البروكار هي في غالبيتها مستوحاة من الحياة اليومية الدمشقية ومن الزخارف الإسلامية ثم من التاريخ العربي والإسلامي والأوروبي. مثال على ذلك : رسم البندقة واللوزة والناعمة (أي الوردة الصغيرة) وهي مستقاة من ثمر شجر البندق واللوز والورود المتواجدة بكثرة في البيوت العربية وبالأخص الدمشقية منها. رسم الشرقية وهي زخارف مستوحاة من الأشكال الهندسية المتواجدة في الجامع الأموي بدمشق، وهي عبارة عن شكل هندسي فيه إثنا عشر ضلعاً. رسم معركة صلاح الدين الأيوبي من التاريخ العربي الاسلامي. رسم سفينة نوح من الأساطير الدينية. رسم روميو وجوليت من التراث الأوروبي. رسم عمر الخيام، وهي عبارة عن مشاهد صيد الغزلان ورقص الجواري وجلسات الرجال وتدخينهم للنرجيلة، وهو رسم متأثر ببلاد فارس. رسم الفراشة الذي يسمى أيضا Pop وهو رسم مطلوب جداً من السياح الأجانب، ويحوي على 7 ألوان. ثم هناك رسم طيري الحب العاشق والمعشوق، وهو قماش البروكار الذي انتقته الملكة إليزابيت الثانية لتصنع ثوب زفافها منه؛ وأخذ تجار البروكار بعد ذلك يطلقون اسم الملكة إليزابيت على رسم العاشق والمعشوق. بالإضافة إلى رسم الكشمير والشال العجمي الدمشقي والشال الوسط. أما بالنسبة للألوان المستخدمة في البروكار، فاللونان الأبيض والأسود هما الأكثر استخداماً لخيوط السدى. أما خيوط اللحمة، فاللونان الأحمر والأخضر ثم الأزرق بكميات قليلة "والبيج" هي المستخدمة. وهي ألوان فيها حياة حارة تعطي رونقاً خاصاً بالإضافة إلى استخدام القصب في البروكار. يعاني الحرير منذ فترة من ضعف الشراء بسبب قلة السياح وبسبب الفقر الذي يعاني منه من يشتري عادة الألبسة التقليدية الحريرية فهم ريفيون وفقراء في غالبيتهم. كما أن مرتدي اللباس التقليدي قد قلّ عددهم بشكل كبير حيث أن الناس توجهوا إلى اللباس الغربي الحديث. فأصبحت الفتيات مثلاً يلبسن اللباس الغربي ويضعن المنديل العادي على رؤوسهن وبالتالي فقد استغنين عن ارتداء الحطاطة والهبرية والجرغد. بالاضافة إلى أن العراق مثلاً كان يشكل سوقاً واسعة لتصريف بعض المنتجات الحريرية السورية؛ وبسبب الأوضاع السياسية الصعبة في هذا البلد، قلّ تصريف المنتجات الحريرية السورية إليه. إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، فإن هذه الصناعة اليدوية الجميلة ستنقرض شيئاً فشيئاً إلى أن تنعدم نهائياً في بلدنا. ولذلك فإنه لابد من بعض الاقتراحات التي يمكن دراستها ومحاولة تحقيقها على أرض الواقع من أجل حماية إنتاج الحرير السوري : 1- فمن أجل التخلص من كساد خيوط الحرير الخام لعدم إقبال تجار الحرير على شرائها بسبب ارتفاع الأسعار، يمكن فتح باب التصدير للشرانق خارج القطر قبل حلها، وإيجاد سوق خارجية عربية أو دولية لتصريف الشرانق كما كان يحصل في الثلاثينات من القرن الماضي مثلاً، وبذلك تخضع هذه المادة لمسألة العرض والطلب في السوق العربية والعالمية. 2- أو يمكن خلق وحدة متكاملة تابعة لمعمل دريكيش في وزارة الصناعة تبدأ بحل الشرانق وتنتهي بتصنيع النسيج الحريري ضمن جودة عالية وضمن شروط مشابهة لشروط القطاع الخاص بمعنى أن تحرر هذه الوحدة من روتين القرارات الإدارية وأن ترفع أجور العمال وتربط الحوافز بنوعية الإنتاج وكميته على السواء، وبالتالي أن تتاح فرص المبادرة الشخصية للمدير والمراقب والعمال؛ وأن يتم تشغيل العدد اللازم من العمال في هذه الوحدة لإلغاء البطالة المقنعة والاهتمام كثيراً بجودة الإنتاج حتى تصبح المنافسة قوية بين القطاعين العام والخاص وهذا ما سيساهم برفع سوية الإنتاج ودعم القطاع العام وبالتالي دعم الاقتصاد الوطني. كذلك المطلوب من الدولة المثابرة على تشجيع القطاع الخاص في عمله وإدخاله كشريك للقطاع العام (قطاع مشترك) لرفع مستوى الجودة لدى القطاع العام (معمل دريكيش). 3- تشجيع الشباب وتدريبهم في معاهد النسيج في القطر العربي السوري على تربية دودة القز وحل خيوط الحرير وحياكتها وذلك للإقبال على هذه المهنة لكي يحلوا محل العمال المتقدمين في السن الذين يعملون على النول. 4- إعطاء قروض لعمال النول من المصرف الصناعي لكي يقوموا بشراء كميات الحرير اللازمة وبالتالي تشجيعهم على متابعة عملهم كي لاتنقرض هذه الصناعة اليدوية. 5- تشجيع الفلاح على زراعة شجرة التوت والاهتمام بأرضه والقيام باستصلاح الأراضي الزراعية. 6- يعتمد تصريف الصناعات اليدوية وخاصة المنسوجات على السياح ولذلك فمطلوب من الجهات المسؤولة في الدولة الاهتمام أكثر بالسياحة عن طريق إقامة معارض للصناعات اليدوية السورية في أنحاء العالم وتنشيط الدعاية السياحية عن سورية وذلك لجذب السياح وبالتالي الاهتمام أكثر بالخدمات السياحية في سورية، مما يزيد من إقبال السياح عليها وبالتالي ينشط شراء مثل هذه المنتجات الحريرية واليدوية من السائح الأجنبي والعربي.
خاتمة : في هذه الخاتمة أسجل بعض الملاحظات الاجتماعية التي لفتت نظري في اثناء القيام ببحثي هذا. ففي بعض القرى غرب حمص والتي كان أهلها فيما مضى يربون دودة القز مثل عيون الوادي ومشتى الحلو، كانت الكلمة السحرية التي ألفظها هي "دودة الحرير" وبعد أن يسمع أهالي هذه القرى تلك الكلمة السحرية، كانوا يبدؤون بالحديث عن ذكرياتهم في تربية دودة الحرير وكيف كانوا يهتمون بها وهم أطفال ويرون جداتهم يفرمن للدودة ورق التوت. كنت طبعاً لاأشارك في الحديث، ولكني أكتفي بالإنصات إلى هؤلاء الناس الذين يتحدثون ببهجة وفرح عن هذه المرحلة من حياتهم وعن تلك اللحظات السعيدة فيها. ويشهد على ذلك بريق عيونهم الساحر في أثناء هذا الحديث. وتشهد على ذلك أيضاً رواية (بقايا صور) للكاتب السوري حنا مينه الذي نشأ في السويدية (أنطاكية) وتحدث في روايته تلك عن علاقة تربية دودة الحرير بحياة الناس وبمواسمهم. من الملاحظات التي لفتت نظري أيضاً هي أن معظم الذين يصنعون المنسوجات الحريرية لايتمتعون بارتدائها بسبب فقرهم. فعمال النول هم أفقر من يعمل في صناعة الحرير وبالتالي هم غير قادرين على شراء الملبوسات الحريرية لغلاء ثمنها. معظم من يعمل بصناعة الحرير الطبيعي وصف الحرير بأنه (روح) ويجب التعامل معه بحنان ورقّة؛ (روح) لأنه نتاج دودة من مخلوقات الله وبالتالي فدودة الحرير هي (روح) خلقت في هذا العالم. في سورية بشكل عام ودمشق بشكل خاص أسماء عائلات أو كنى مستوحاة من العمل في صناعة الحرير اليدوية مثل : آل الفتال – المسدي – الصباغ – الحايك – النويلاتي والنوال – الرباط – الدراقلي – المزيك – الملقي – الكبابة – المكوكجي – الحريري والقزي. وهذا يدل تماماً على ارتباط الناس بهذه الحرفة، وبالتالي تسميتهم بأسماء تدل على مراحل هذه الحرفة وعلى عمل أجدادهم فيها. هناك في التراث الشعبي السوري أمثال شعبية بالعامية مستوحاة من صناعة الحرير اليدوية مثال: 1- (فلان) رايح جايي مثل مكوك الحايك. (ويقال لمن كثر سعيه وقلّ جناه). 2- عطوا الدب تيسلك الحرير، قالوا مبين على يديه هالطرايا. ( وهذا المثل يعبّر عن سخرية بالغليظ روحاً وعقلاً حين يتناول الأمور المرهفات). 3- إذا بدك تضرب، اضرب أمير؛ وإذا بدك تسرق، اسرق حرير؛ حتى إذا عيّروك يحرز التعيير. (ويقال لمن أراد أن يفعل شراً، فعليه أن يختار أكبر الأمور فضرب الأمير أمر جلل وكذلك سرقة الحرير فهو غالي الثمن) لما للحرير الطبيعي من أهمية في إظهار التنعم والرفاه، فقد حرّمت الكنيسة ارتداء الحرير وخاصة على الرهبان لأن عليهم أن يرتدوا أخشن الألبسة وليس أنعمها دليل الزهد والتقشف. ثم عادت الكنيسة وسمحت بارتداء الحرير في القرن الخامس الميلادي. واليوم يرتدي الرهبان والمطارنة في أثناء القداس في سورية ألبسة من البروكار الدمشقي الجميل والناعم، في الكنيسة فقط. وهناك في الدين الإسلامي عدة أحاديث شريفة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم فيها ارتداء الحرير الخالص على ذكور المسلمين فقط دعوة منه للتقشف والزهد، ويسمح بارتدائه لأسباب صحية فقط. ومن هذه الأحاديث الشريفة : عن عمر بن الخطاب؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : لاتلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف لبس الحرير لحكّة بهما. ولذلك نجد حتى اليوم أن معظم المسلمين لايرتدون الحرير الخالص وإنما يرتدونه ممزوجاً بنسب بسيطة مع القطن (كقنابيز الصايا مثلاً) وذلك تبعاً لما جاء في الأحاديث الشريفة. ويبدو جلياً من الحديث الأول أن الحرير يعتبر مكافأة لمن ينال الجنة في الحياة الأبدية. كان هدفي الأول هو توثيق هذه الصناعة اليدوية الدقيقة للحفاظ عليها من الاندثار نهائياً؛ فهي جزء لايتجزأ من التراث الثقافي لبلادي، هذا التراث الذي يميّز عادة شعوب العالم ويعطيها هويتها التي تحفظها الأجيال على مر السنين. في كل مرحلة شهدتها من مراحل هذه الصناعة اليدوية، وجدت العمل شاقاً ومضنياً ويحتاج لصبر وأناة وهو متوفر بكثرة والحمد لله لدى صنّاعنا وعمالنا. ونأمل من الجهات المعنيّة، وزارات الصناعة والسياحة والثقافة، الاهتمام بهذه الحرفة اليدوية الدقيقة للحفاظ عليها من الاندثار كي لاتُطوى في غياهب النسيان.
|