عدد القراءات 385 2021-04-29 بقلم : د. ريم منصور سلطان الأطرش
بقلم د. ريم منصور سلطان الأطرش
في كتاب الدكتور محمود محارب المُعَنْوَن (العلاقات السرّية بين الوكالة اليهودية وقيادات سوريّة في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى)، وفي فصله الخامس، الذي سيكون محور الحديث في مقالتي هذه، يجد القارئ اهتمام الكاتب المبالَغ به بذكر اسم سلطان الأطرش، بداعٍ ومن دون داعٍ، حتى يشعر القارئ بأنّ سلطان الأطرش هو الشخص الأساس والوحيد المسؤول عمّا طرحه الكاتب في هذا الفصل، علماً أننا لا نجد فيه أي وثيقة مكتوبة بخط سلطان أو بتوقيعه، وأنا أعرف خطّه وتوقيعه تمام المعرفة لأني عملتُ، خلال عشرين عاماً، على تحقيق أرشيف سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى، وأنا أبحث اليوم عن التمويل لنشره، وهو خمسة أجزاء بأكثر من ألفَيْ صفحة.
بادئ ذي بدء، أودّ تصحيح بعض الأخطاء الواردة في الصفحة ١٨٠ من الكتاب: فولادة سلطان الأطرش هي في العام ١٨٨٨ وليست في العام ١٨٩١؛ وحين لجأ مع عدد من الثوّار في صيف العام ١٩٢٧ أولاً إلى الأزرق ثم إلى صحراء وادي السرحان في مملكة نجد والحجاز، بعد أن قام الانتداب البريطاني بتضييق الخناق على الثوّار في الأزرق، قضى في صحراء وادي السرحان خمس سنوات مع رفاقه وعائلاتهم. أما دخوله ورفاقه إلى شرقي الأردن، فكان في العام ١٩٣٢، وقد تمّ وضعه، هو فقط، قيد الإقامة الجبرية في الكرك، لا يستطيع تركها مطلقاً، بينما كان رفاقه وأهل بيته وأشقاؤه يستطيعون السفر أينما شاؤوا في الأردن، وبعضهم إلى خارج الأردن أيضاً. وهذا الأمر له دلالة! أما في الهامش رقم ١١ من الصفحة ١٨٠، فالمسؤول عن إعداد كتاب (أحداث الثورة السورية كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش) هو ابنه، منصور، لا غيره، كما هو واضح في التمهيد!
أما إصرار د. محارب على أنّ جميع مَنْ ذكرهم، وقد نسجوا علاقات ذات مصالح شخصية بحتة مع الوكالة اليهودية، هم مقرّبون من سلطان الأطرش ولا يقومون بأمر إلا بمعرفته وموافقته، فهذا أمر مبالَغ به جداً! فحتى اليوم، نجد أنّ الغالبية العظمى من أهل جبل العرب في سوريا يزعمون أنهم "مقرّبون" من سلطان، لا بل هم أحفاده! وهذا أمر يعود إلى الطبيعة العشائرية الحاكمة في جبل العرب! فكيف بمَنْ يرغب بإثبات مصداقيته من أجل تحقيق مصالح شخصية ضيقة، لا من أجل الصالح العام كما كان دائماً هدف سلطان الأطرش؟!
أما الكلام بأمور شديدة الأهمية على لسان سلطان الأطرش، من دون أن تؤيّدها وثيقة واحدة مكتوبة بخط يده ومختومة بخاتمه، الذي هو في حوزتي اليوم، فلا أعتقد أنه عمل بحثي أكاديمي موثوق! على سبيل المثال، ما ورد في الصفحتين ١٨٤ و ١٨٥ من الكتاب، وهو أنّ سلطان طلب من الشيخ وحش ابن الشيخ محمد الحسين أن يتوجّه إلى قادة الحركة الصهيونية وأن يطلب منهم التدخّل لدى فرنسا من أجل السماح له بالعودة إلى سورية" في خريف العام ١٩٣٢. فهذا افتراء واضح على سلطان الأطرش للأسباب التالية:
١-كانت ظروف الحياة في الخيام في صحراء وادي السرحان أصعب بما لا يُقاس، مقارنةً بالحياة في الكرك: (يتبيّن للقارئ شظف العيش في تلك الصحراء من خلال السيرة الذاتية لمنصور سلطان الأطرش، في كتابه: الجيل المُدان، بيروت، دار رياض الريس، ٢٠٠٨، في الصفحات، من ١٩ حتى ٣٤)، حيث كان يستأجر منزلاً في الكرك، وأنا زرتُه وصوّرتُه في أيلول من العام ١٩٨٢، ونشرتُ الصورة في الصفحة ٢٥٦ من روايتي الذاتية (إلى آخر الزمان، دمشق، دار تساؤلات، ٢٠١٤)، لكنه، مع ذلك، لم يطلب هذا من أحد، وليس من شيمه الحصول على الخلاص الفردي!
٢-الوطنيون السوريون فقط هم الذين كانوا يعملون على وضع مسألة العفو عن جميع الثوّار والسياسيين ضمن المفاوضات بينهم وبين فرنسا. (أرشيف سلطان الأطرش، السعي من الوطنيين السوريين لدى المندوب السامي في دمشق، لطلب العفو عن جميع أبناء سوريا، الوثيقة رقم ٥٩٣، العام ١٩٣١).
٣-رفض سلطان الأطرش في عشرينيات القرن العشرين، بعد ضعف الثورة عسكرياً واستمرار المقاومة، عرضاً من الملك جورج الخامس قدّمه له المعتمد البريطاني، لدى اجتماعه به في الأزرق، مخاطباً سلطان الأطرش: "إنّ حكومة صاحب الجلالة البريطاني تتكفّل بتقديم قصر خاص بإقامتكم في مدينة القدس، وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة"، وذلك في محاولته لإقناع سلطان "بضرورة إنهاء الثورة والتسليم للأمر الواقع دون قيد أو شرط"! فأجابه سلطان الأطرش بما يلي: "إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا، لكنّا بقينا في دورنا الرحبة، واستجبنا لدعوة الفرنسيين المتكرّرة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا، فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم، أو مع حلفائكم الفرنسيين، إلا على أساس صلح مشرّف تتحقّق به المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها، وتتلخّص بحرّية الشعب واستقلال البلاد ووحدتها، وجلاء القوّات الأجنبية عنها": (أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، راجعها وصحّحها ومهّد لها منصور سلطان الأطرش، دمشق، دار طلاس، ط٢، ٢٠٠٨، الصفحتان ٣٠٥ و ٣٠٦). وكان المعتمد البريطاني حينها قد أحضر معه لمقابلة سلطان الأطرش وبعض من رفاقه في الأزرق ما لذّ وطاب من الطعام والشراب. وكان الثوّار محرومين من الماء والطعام، إلا القليل الذي يتيسّر لهم، وذلك بسبب حصار البريطانيين لمصادر المياه في الأزرق، فمن يحاول جلب الماء من الثوار، كان البريطانيون يطلقون عليه النار. وبنظرة من سلطان لرفاقه، فهموا منها أنّ هذا الطعام محرّم عليهم جميعاً. وحين نهض المعتمد البريطاني للذهاب، قال له سلطان الأطرش: "خذ كلّ ما أتيت به من طعام وشراب، فلا حاجة لنا به". وهكذا كان.
وقد وثّقتُ مع صديقتي أليسار خوري في مكتبة الأسد الوطنية، في العام ١٩٨٦، أرشيف وزارتي الخارجية الفرنسية والبريطانية، وكان من بينها رسالة من قنصل بريطانيا في المشرق إلى وزارة الخارجية البريطانية يؤكّد فيها على رفض تعاون سلطان الأطرش مع البريطانيين رغم السعي البريطاني الحثيث لتقديم الدعم المادي له، واستمرار رفضه له: "سلطان الأطرش لا يمكن شراؤه"! هذه الوثائق هي ضمن أرشيف المكتبة الوطنية في دمشق:
Documents of the British Colonial about Syria (1921 – 1944; 1947; 1949): L. 62; L. 63; L. 66
أما ما ورد في الصفحة ١٨٦: "وكان العيسمي من أهم مساعدي سلطان الأطرش ومستشاره الخاص للشؤون الخارجية"، فهذا غير صحيح مطلقاً في ثلاثينيات القرن العشرين، فمنذ العام ١٩٣٠، بدأ اللغط يدور حول دور العيسمي كممثّل لسلطان الأطرش في مصر (أرشيف سلطان الأطرش، الوثيقة رقم ٤٥٩، العام ١٩٣٠)، وذلك لأسباب عديدة لا مجال لشرحها الآن. ومنذ العام ١٩٣١، أصبح المعتمد الأساس لسلطان الأطرش في عمّان هو السيد حمدي منكو (أرشيف سلطان الأطرش، الوثائق ٥٨٧، ٥٩٢، ٥٩٥، ٥٩٩، ٦٠٤). بعد انتهاء الثورة، لا أحد مطلقاً يمثّل سلطان الأطرش، لا السيد العيسمي ولا السيد القطامي (الصفحة ١٩٣) ولاغيرهما! فالمرء، في أحايين كثيرة، يختلق أقاويل على لسان شخصية موثوقة لدى الناس، بغية إثبات مصداقية سعيه، إرضاءً لمن يعمل لصالحهم، لكنّ غايته في ذلك هي تحقيق مصالحه الشخصية الضيقة!
في الصفحة ١٨٧، ورد على لسان العيسمي "أنّ سلطان الأطرش يسعى بعد أن يعود إلى جبل الدروز ليحصل جبل الدروز على حكم ذاتي كامل". وهذا أيضاً كلام لا يمتّ بصلة لتاريخ سلطان الأطرش النضالي ولا تثبته أي وثيقة بخط يده! إنه محض افتراء! ففي بيانه "إلى السلاح" في آب ١٩٢٥، حدّد سلطان الأطرش هدف الثورة السورية الأول ب "توحيد سوريا ساحلاً وداخلاً؛ والهدف الثاني هو الاستقلال". وقد رفض دويلة جبل الدروز التي أقامها الفرنسيون، رغم كل الإغراءات الفرنسية له! (أرشيف سلطان الأطرش، الوثائق والبيانات التي تؤكّد على وحدة سوريا وعلى وحدة جبل العرب مع الوطن الأم سوريا ورفض انفصاله عنها، من سلطان الأطرش وبخط يده، الوثيقة ٣١٨ للعام ١٩٢٨؛ الوثيقتان: ٥٨٤، ٦٠١ للعام ١٩٣١؛ الوثيقتان ٧١٥، ٧٢٥ للعام ١٩٣٦؛ الوثيقة ٧٣٩ للعام ١٩٣٧).
إنّ الأحداث التي وقعت خلال الثورة الفلسطينية الكبرى قد دحضت ادعاء العيسمي وغيره، إذ ورد في الصفحة ١٨٨ ما يلي: "انخراط عرب دروز في الثورة الفلسطينية من سورية ولبنان..."؛ "الدروز في جبل الدروز خصوصاً، يشاركون بنسبة كبيرة في الثورة في فلسطين"... وهذا دليل على عدم صدق ادعاءات العيسمي في مسألة ضغط القادة في جبل العرب على أهالي الجبل من أجل عدم مشاركتهم في الثورة الفلسطينية الكبرى!
في الصفحة ٢٠٨، ادّعى العيسمي أنّ الأشقاء سلطان وزيد وعلي الأطرش "أعربوا عن رغبتهم في دعوة آبا حوشي" لزيارة جبل العرب، وهذا قد تمّ دحضه بالفعل في الصفحة ٢٠٤، حيث قام إلياهو ساسون، وهو دمشقي، بدحض أفكار حاييم كوهين، فقال: "ليس صحيحاً ما ادّعاه كوهين عن أنّ الدروز هم الذين بادروا، بعد عودة سلطان الأطرش إلى جبل الدروز، لإقامة علاقات مع الوكالة اليهودية...".
ثم إنّ بعد عودة سلطان الأطرش في أيار ١٩٣٧ إلى سوريا، جاء إليه لتهنئته بالعودة إلى الوطن عشرات الآلاف من بلاد الشام كلها، وهو لم يدعُ أحداً لتهنئته بالعودة! بل استقبل الجميع على اختلاف مشاربهم، ومن ضمنهم آبا حوشي، الذي يتحدث العربية، كما ورد في الهامش ٩٧ في الصفحة ٢٢٦، وقد تمّ استقباله سنة ١٩٣٨ بصفته رئيس نقابة العمّال في حيفا فقط.
ما لفت نظري في هذا الكتاب، وربما سيلفت نظر أيّ قارئ دقيق الملاحظة، هو أنه حين يكون الحديث عن بعض إساءات الثوار في فلسطين تجاه أشقائهم في الوطن من بني معروف، كان د. محارب يوحي للقارئ بأنّ تلك الإساءات لم تقع وبأنها تُهَم ملفّقة! لكن، حين يكون الحديث نقلاً عن فلان وعلّان، عن لسان سلطان الأطرش، وبما يتوافق مع نهج الصهاينة في تهشيم الرموز الوطنية في وطننا العربي، فإنّ د. محارب يوحي للقارئ بأنّ الحديث مؤكّد!!
في الصفحة ٢٣١ أكّد العيسمي على التوافق مع سلطان الأطرش بشأن نقل دروز فلسطين إلى جبل العرب في سوريا! لكنّ الوثيقة المكتوبة بخط يد أسد سليم الأطرش، من المجيمر، وقد كان مديراً ويعمل في ميناء حيفا، وهو الذي رافق الوفد الفلسطيني الذي زار سلطان الأطرش، تؤكّد على أنّ سلطان الأطرش، مخاطباً وفداً زاره من مشايخ بني معروف من فلسطين، في القريّا، في ١٥ حزيران ١٩٤٨، نهى الدروز عن ترك قراهم في فلسطين، ودعاهم للصمود في أرضهم، مؤكّداً لهم على أنه "إذا ما نزحتم إلينا فلن نقبلكم أبداً"!
كما أكّد سلطان الأطرش في كتاب (أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش)، وفي الصفحة ٣٦٩، على أنّ علاقته بالقضية الفلسطينية قديمة، "فعندما قامت الثورة سنة ١٩٣٦، كنّا ما زلنا في الكرك في شرق الأردن، وقد ساهمنا مع وجهاء البلدة في نصرة الثورة بقدر ما أتاحت لنا الظروف، حيث إنّ بريطانيا لم تغفل عن مراقبة أي تحرّك يُقدِم عليه الأهلون لدعم الثورة. فقدّمنا بعض العتاد الذي كنّا نحرص عليه من بقايا سلاحنا في قتالنا للفرنسيين على أرض سوريا. وكلّفنا المجاهد شكيب وهاب في تأمين وصوله إلى المجاهدين على أرض فلسطين". وبعد إقرار تقسيم فلسطين، ١٩٤٧، "حضر إلى الجبل القائد فوزي القاوقجي... ثم قدِم إلى القريّا وأطلعني على المهمّة الموكلة إليه وهي طلب المتطوعين في جيش الإنقاذ لمنع وقوع فلسطين في يد الصهاينة. استنهضنا همّة شباب الجبل في تلبية دعوته، فاستجاب الكثيرون لها... ولقد قدّم الجبل عدداً من الشهداء فاق ثمانين شهيداً على أرض فلسطين".
أخيراً، يؤسفني أن يقوم أستاذ أكاديميّ بمثل تلك السقطات في كتاب يُفتَرَض فيه الحيادية في البحث. وأنا أصرّ على كل كلمة كتبتُها في هذه المقالة بسبب ما يشكّله هذا الكتاب من خطورة، خاصة في هذه الأيام التي نعاني منها من محاولات التفتيت الجديدة في منطقتنا، والتي تستهدف بشكل خاص الأجزاء الشمالية والشرقية والجنوبية من سوريا.
https://al-akhbar.com/Opinion/305121
جريدة الأخبار اللبنانية 29/4/2021
اقرأ أيضاً
|