عدد القراءات 2864 0000-01-00 بقلم : د. ريم منصور الأطرش http://www.awu.sy/PublicFiles/pdf/mawkif/mawkif553.pdf شهداء السادس من أيار 1916 ترسيخ لمفهوم الفداء/ د. ريم منصور الأطرش مقالة منشورة في مجلة الموقف الأدبي، العدد 553 - أيار 2017 شهداء السادس من أيار 1916
ترسيخ لمفهوم الفداء
د. ريم منصور الأطرش
البحث
- المقدمة:مفهوم الفداء في التراث السوري: تموز – المسيح –الحسين بن علي بن أبي طالب.
- لمحة تاريخية عن سقوط الدولة العثمانية، وعن حرب السفر برلك.
- لمحة تاريخية عن الأوضاع في بلاد الشام منذ العام 1910: حملة سامي باشا الفاروقي على جبل حوران وطلائع الشهداء العرب.
- شهداء21 آب 1915 وشهداء 6 أيار 1916: وضوح عروبتهم ومناهضتهم للصهيونية.
- رسوخ معنى الفداء في حياة الناس، في بلاد الشام: الثورتان الكبريان السورية، 1925، والفلسطينية، 1936،الشهيد يوسف العظمة، الشهيد جول جمّال، فدائيو فلسطين، شهداء المقاومة في بلاد الشام.
- الخاتمة:زيارةٌ لأضرحةشهداء 6 أيار، في دمشق، برفقةالأديبة الدكتورة ناديا خوست،في أواخر الألفية الثانية.
***
المقدمة
التراث السوري الممتد لما قبل الميلاد، حافل بروح الفداء، إذ إن الإله تموز البابلي والإله أدونيس الكنعاني، وسائر تنويعاتهما، تبعاً للحضارات التي مرّت على بلاد الشام، كانوا جميعاًيختارون الاستشهاد بملء إرادتهم من أجل خلاص البشر. فالفداء عمل "إلهي" مقدّس حسب أساطير بلاد الشام.
كان لطغيان المجتمع البطريركي أثر كبير على الحضارات المتعاقبة، منذ ذلك التاريخ، لكنّ الديانات البطريركية لم تستطع القضاء على ديانة الأم الكبرى، العذراء الكاملة، عشتار، التي استمرّت راسخةً في الوجدان الشعبي.
كان الإله الابن، ابناً للأم الكبرى وزوجاً وحبيباً لها في الآن ذاته. إنه وجهها الآخر ونصفها الذكري: "فعشتار وتموز هما، في الحقيقة، أقنومان لا إلهان مستقلان. اثنان في واحد، وواحد في اثنين".[1]
لقد شارك الإله الابن أمَّه عشتار في خصائصها، ربّةً للدورة الزراعية، فقد أضحى إلهاً للنبات وللدورة الزراعية. فهو تموز الخضر أو الأخضر... إنه "الإله الحيّ الميت، والميت الحيّ"[2]. فنجده يهبط إلى باطن الأرض، بإرادته الكاملة، في فصل الخريف، ثم يُبعَث حيّاً في الربيع، مانحاً الناس بركات الأرض وخصوبتها. "وكان حقل القمح الأول هو المسرح البدائي الطبيعي، الذي جرت عليه أسطورة الإله الميت الحيّ، الحيّ الميت، الذي دخل في إسار الدورة الزراعية السنوية، مقدِّماً للبشر خلاصاً من الجوع"[3].
وكانت سنابل القمح الجافة تمثّل جسد الإله الذي يقدّم نفسه، سنوياً، طائعاً، إلى الموت. وهو بذلك، يقدّم في موته، أو في استشهاده، أنبل مثال عن الفعل الحرّ في اختيار الموت، من أجل خلاص البشر.
استمرّ مفهوم الموت من أجل خلاص البشر مع السيد المسيح، فأضحى معه خلاصاً روحياً، في سبيل بلوغ الحياة الأبدية والخلود. "فالإله الابن لم يولد إلا ليُسلَّم إلى الموت من أجل حياة البشر"[4].
ومفهوم الفداء ذاك، في سبيل خلاص البشرية جمعاء، ماديّاً أو روحيّاً، بقي راسخاً في بلاد الشام، فتسلّل، في ما بعد، إلى طقوس عاشوراء، في ذكرى استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي اختار أيضاً، وبفعل حرّ تماماً، الذهاب للاستشهاد، بالرغم من تأكّده من خذلان مَنْ ناصره من الكوفيين.
إضافةً إلى ذلك، ما يزال حيّاً في الوجدان الشعبي الشامي، مار جريس أو الخضر، إذ"تقدِّم شخصية مارجورجيوس، في التراث الشعبي المسيحي، وشخصية الخضر، في التراث الشعبي الإسلامي، نموذجاً عن الخيال الشعبي (...) الذي يجمع الثقافة الإنسانية في تتابع وتداخل ملوّن بديع. وهكذا، استمرّ تموز الأخضر حيّاً في الثقافة المسيحية والإسلامية إلى يومنا هذا، من خلال مارجورجيوس والخضر"[5].
تلك الروح المشرقية، المتميّزة بالفداء، ليست غريبة عن أهل بلاد الشام، حتى في الزمن الحديث، ثم المعاصر...
البحث
حلّت نهاية الخلافة العثمانية على يد الأتراك الطورانيين أنفسهم، إذ تمّت المطالبات بإصلاح أحوال الإمبراطورية العثمانية، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، "وشهدت الدولة إنشاء مجلس الأعيان (الشيوخ) ومجلس "المبعوثان" (النواب) الذي انتُخِبَ أعضاؤه مباشرة من الشعب، فعرفت بلاد الشام أول برلمان لها، وكان من أعضائه خالد الأتاسي عن حمص وأمين أرسلان عن جبل لبنان وحسين بيهم ونقولا نقاش عن بيروت ونوفل نوفل عن طرابلس"[6] . لكنْ، سرعان ما تمّ تعطيل الدستور، ومورِسَ القمع بحق دعاة الإصلاح السياسي، ومن أهمهم الأدباء والمفكرون العرب، الذين أخذوا يدعون إلى نيل العرب لحقوقهم القومية والثقافية والسياسية، وبدأ المثقفون العرب بتأسيس الجمعيات التي قادت هذا التوجه العام.
وفي تركيا، تأسّست جمعيات سياسية هدفت إلى إصلاح النظام السياسي، ثم عُرِفتْ بحزب تركيا الفتاة، المعارِض لقمع السلطان عبد الحميد؛ وقد عُرِفَ هذا الحزب، بعد ذلك، بجمعية الاتحاد والترقي. فانضم إليها بعض الضباط العرب في الجيش التركي، وتعاطف معها بعض النهضويين العرب، من أمثال عبد الرحمن الكواكبي وأديب اسحق. وبتأثير هذا الضغط، أعاد السلطان عبد الحميد العمل بدستور العام 1908، فعمّت الأفراح أنحاء البلاد.
"إلا أنّ هذا الوضع أيضاً لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما أعاد السلطان عبد الحميد تعطيل الدستور، فقرّر مجلس الأمة خلع السلطان عبد الحميد ونفيه في العام 1909، وتسلّم حزب الاتحاد والترقي السلطة، لكنه، بدلاً من أن يمد يده إلى العرب الذين أيّدوه في حركته الإصلاحية، عمد فوراً إلى حلّ جميع الجمعيات والمنظمات التي لا تنتمي إلى الجنس التركي، وأولها جمعية الإخاء العربي العثماني، واتبع سياسة العسف والاستبداد والعنصرية ضد القوميات الأخرى في جسم الدولة التركية، مما دفع الأحرار العرب إلى العودة مرة أخرى إلى النضال السياسي لتحرير الأمة العربية والوصول إلى استقلالها"[7] .
في العام 1910،تذرّعت السلطة العثمانية بالخلاف الذي وقع بين أهالي بصرى الشام وأهالي القريّا، في جبل حوران، أو في جبل العرب، حسب التسمية التي اختيرت له في العام 1925، فقُتِلَ بعض الأفراد من الطرفَيْن؛ ثم اتّسع الخلاف ليشمل قرى أخرى في حوران، سهلاً وجبلاً،فسقط خلال الأحداث عدد أكبر من القتلى. واستمرّت التعدّيات على قوافل الجبل المتوجّهة إلى دمشق وإلى بعض القرى الحورانية. وقد ردّ بعض أهل الجبل على هذه الحوادث الاستفزازية.
استغلّت السلطة التركية الطورانية هذه الأحداث وأرسلت حملة بقيادة سامي باشا الفاروقي، مؤلّفة من ثلاثين ألف جندي، لإنزال ضربة قاسية بأهالي الجبل، وهو الذي شكّل حصناً منيعاً يلجأ إليه كل أحرار العرب الهاربين من طغيان العثمانيين ثم من طغيان الأتراك الطورانيين.
في تلك الأثناء، كانت جمعية الاتحاد والترقّي قد بدأت بحركة التتريك ضد العرب. لكنّ المساعي بُذِلَت من أجل التخفيف من بطش هذه الجمعية، فتمّ تعيين سامي باشا الفاروقي، قائداً عربياً لهذه الحملة! وهذا ما جعل أهل الجبل يعتقدون بأن سامي باشا الفاروقي سيعاملهم بعدل، كونه عربياً!
وعد سامي باشا وجهاء الجبل بعدم الاعتداء على قراهم وأرزاقهم، وأقسم لهم على ذلك، على المصحف الشريف، فعاد وفد الوجهاء من مقابلته "وهو مطمئنّ لهذه الوعود وأذاعها على أهالي الجبل كي يلتزموا الهدوء والسكينة ولا يتعرّضوا للجيش الزاحف على الجبل بسوء"[8].
لكنّ سامي باشا الفاروقي نقض عهده واعتقل أحد الوجهاء من الجبل بعد إعطائه الأمان.
دخلت الحملة العثمانية إلى الجبل متجهةً إلى مدينة السويداء، التي دخلتْها في 25 أيلول 1910.
حين علم الأهالي باعتقال أحد الوجهاء، رحّلوا نساءهم وأطفالهم إلى البادية واستعدّوا لمواجهة حملة سامي باشا الفاروقي .
وفي الأول من تشرين الأول من العام 1910، جرت في الكفر معركة حامية الوطيس، شارك فيها أهل الجبل، ومنهم ذوقان الأطرش وابنهسلطان، وكبّدوا الأتراك خسائر فادحة، ربما زادت على ألف قتيل، ووقع مئة شهيد من رجال الجبل.لكنّ الأهالي اضطروا إلى الانسحاب شرقاً بسبب كثافة نيران مدفعية العدو. وتمّت محاصرة حملة سامي باشا شمالاً في منطقة قنوات ومفعَلة بعد معركة ضارية، لكنّ الثوار انكسروا بعد ذلك أمام الحملة ولم يستطيعوا إعادة تجميع صفوفهم من جديد. وهذا ما جعل أهل الجبل يستسلمون "معتمدين على الأمان الذي أذاعه قائد الحملة"[9].
وبخديعة مُحكَمة من سامي باشا الفاروقي، وبعد إعطاء الأمان لذوقان الأطرش، نصحه بالمثول أمام المحكمة العرفية في دمشق.
"... وأصدرت المحكمة العرفية بدمشق حكمها بالإعدام شنقاً على [ذوقان الأطرش] وخمسة من أعيان الجبل الآخرين، هم: يحيى عامر من شهبا، مزيد عامر من المتونة، هزاع عز الدين من لاهثة، محمد القلعاني من نمرة وحمد المغوّش من خلخلة"[10].
وكانت التهمة المنسوبة لهؤلاء هي "تهمة الخروج على الخلافة والكفر بالإسلام؛ وقد نُفِّذَ الحكم بهم تباعاً في الأيام التالية:
بذوقان الأطرش ويحيى عامر، يوم الأحد في 5 آذار 1911؛ بمزيد عامر وحمد المغوّش، يوم الثلاثاء 14 آذار 1911؛ بهزاع عز الدين ومحمد القلعاني، يوم الخميس 16 آذار 1911"[11].
منعت السلطة دفن هؤلاء الشهداء، لكنّ أحدهم، من بني معروف، استطاع "سرقة" جثمان ذوقان الأطرش والقيام، خفيةً، بدفنه في قرية جرمانا، لكنْ دون أي دليل أو شاهدة على رمسه؛ ويقال إن جثمانه يرقد في منطقة تدعى الحَفرة، وقد تحوّلت، في ما بعد، إلى حديقة للبلدية.
"لقد كانوا، رحمهم الله، أباة ضيم وحماة ذمار وثواراً مجاهدين في سبيل حرية بلادهم واستقلال أمتهم، قبل أن تلقى القافلة الأخرى الكبيرة من أحرار العرب وجه ربها على أعواد المشانق في السادس من أيار عام 1916"[12].
وقد تمّ سوق شباب الجبل، ومنهم سلطان الأطرش، في تشرين الثاني من العام 1910، من أجل تأدية الخدمة الإلزامية في الجيش التركي، إذ أُخِذوا إلى موناستير، بالقرب من الحدود اليونانية – الألبانية. ثم عاد هو إلى أرض الوطن، عن طريق ميناء بيروت، في ربيع العام 1912.
في روايتها "حب في بلاد الشام"، اعتبرت الدكتورة ناديا خوست، ذوقان الأطرش، الشهيد العربي الأول، قبل قافلة شهداء السادس من أيار، وهم جميعهم وطنيون أحرار، قاوموا الاستعمار بدمائهم وأرواحهم، فداءً لوطنهم ولشعبهم.
حرب السفربرلك
في العام 1915، قاد جمال باشا الجيش الرابع التركي لاحتلال مصر،فسمّيت الحملة تلك بحرب السفربرلك أو حملة ترعة السويس الأولى، إلا أن الهجوم فشل فشلاً ذريعاً، ولم ينجُ من الجيش الرابع إلا القليل من الجنود.
كان لهذا الفشل الذريع المسؤول عنه كلياً، جمال باشا، أن جعلهيغضب على القيادات العربية العسكرية والمدنية التي حمّلها مسؤولية هذا الفشل، "فعمل على استبدال الكتائب العربية في بلاد الشام بكتائب، غالبية جنودها من الأتراك، وفصل الضباط العرب البارزين من وظائفهم وأرسلهم إلى مناطق بعيدة، وأخذ باعتقال الزعماء الوطنيين والمفكّرين العرب والتنكيل بهم وتعذيبهم حتى الموت، وقد كانت باكورة هؤلاء إعدام عدد من المناضلين بأحكام عرفية باطلة في عدد من المناسبات".[13]
أعطى جمال باشا أوامره بإعدام نخبة من المثقفين العرب منسوريا ولبنان, ملفِّقاً لهمعدة تهم"تتراوح بين التخابر مع الاستخبارات البريطانية والفرنسية للتخلّص من الحكم العثماني، إلى العمل على الانفصال عن الدولة العثمانية، وهو ما يقال إنه ما كان يسعى هو بنفسه إليه".[14]
كانوا شباباً متنوّرين، معظمهم من بلاد الشام، سوريا وفلسطين والعراق والأردن، منهم الشيخ والخوري والمحامي والصحافي والطبيب والأديب. جمعهم شعورهم بالاضطهاد والقمع الذي كانت تمارسه الدولة المحتَلّة، ضد أبناء الأمة العربية، فتسوقهم للقتال مئات آلاف الأميال بعيداً عن موطنهم الأصلي.
"مئات الآلاف من بلاد الشام ماتوا في معارك دارت رحاها في دول مثل اليونان وصربيا وبلغاريا والجبل الأسود وفي جزر إيطالية كما في ليبيا العربية. ثم بدأت الدولة العثمانية تخسر ما تعتبره ممتلكاتها في هذه المناطق واحدة تلو الأخرى بين 1910 و1913، إلى جانب الفساد وزرع الفتن وفرض الضرائب القاسية لتمويل الحروب، وتفشّي الأمراض والمجاعات. وقتذاك، نهض هؤلاء الشبان من سبات الأمة العميق مبادرين إلى تشكيل جمعيات سياسية سرّية، أو علنية تحت ستار أدبي واجتماعي. وبرز ضمن المنضوين في هذه الجمعيات ثلاثة تيارات: الأول كان يطالب بجعل إدارة الدولة على أساس اللامركزية، والثاني كان يسعى إلى الانفصال نهائياً عن السلطة العثمانية، والثالث كان ينادي بالتدخل الفرنسي أو الإنكليزي لإدارة البلاد مكان العثماني. واللافت أن الغالبية العظمى من الذين أعدموا، خلال الأعوام 1915 و1916، كانوا ينتمون إلى التيار الأول والثاني، وَوَجَّهَ إليهم جمال باشا تهمة «التعامل مع الأعداء» أي فرنسا وإنكلترا"[15].
أحال جمال باشا أوراق الوطنيين العرب إلى المحكمة العرفية في عاليه، في جبل لبنان. وقد حاول الشريف حسين بن علي، شريف مكة، التوسّط من أجل إنقاذهم من براثن السفّاح، فأوفد ابنه الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق، الذي "قابل السفّاح ثلاث مرات في مسعى لإيقاف حكم الإعدام دون جدوى، إذ إن السفّاح كان قد عقد النيّة على تنفيذ مخططه الرهيب"[16].
تمّ تنفيذ أحكام الإعدام شنقاً، في 21 آب 1915 وفي 6 أيار1916 ، فيساحة البرج في بيروت، وساحة المرجة في دمشق. فتمّ إطلاق اسم "ساحة الشهداء" على هاتين الساحتين.
"بقي أحمد جمال باشا السفّاح ممعناً في غيّه، إلى أن شعرت الدولة العثمانية بنتائج سياسته الفظيعة، فنقلته من سوريا وعيّنت بدلاً منه جمال باشا المرسيني الشهير بالصغير"[17].
تمّ اغتيال جمال باشا السفّاح، في مدينة تبليسي، في العام 1921 على يد رجل أرمني يدعى اسطفان زاغكيان.
"نزل جمال باشا إلى بيروت (...)! نبش وثائق من القنصلية الفرنسية واتهم الوطنيين العرب الذين طلبوا الحريات والإصلاح في الدولة بأنهم خونة. ورتّب ديوان الحرب العرفي في عاليه لمحاكمتهم!"[18]
في الحقيقة، قام هؤلاء الوطنيون، الذين شارك معظمهم في المؤتمر السوري، المنعقد في باريس، في العام 1913، والذي ترأّسه الشيخ عبد الحميد الزهراوي، بالتعبير عن رغبتهم في الإصلاح، بعيداً عن أيّ تدخّل أوروبي...
"لكنّ جمال باشا الذي اكتشف وطنية هؤلاء وحماستهم خلال تعرّفه إليهم في النادي العربي في دمشق، أراد التخلّص منهم بشكل نهائي. قد تكون رغبته هي في الاستئثار بسوريا والتسلّط عليها واقتطاعها من الدولة العثمانية ثم مفاوضة الغربيين عليها!"[19]
ينتمي جمال باشا إلى ما أطلق عليه جماعة الدونمة، وهم في الأساس مؤيّدون للصهيونية. وهذا ما يفسّر رغبته المحمومة في التخلّص من الوطنيين العرب، المؤمنين بالعروبة،والذين انتبهوا، مبكّراً، إلى خطر الصهيونية على البلاد العربية، وخصوصاً على فلسطين، وبأنه خطر وجودي حقيقي، كالن يسعى للسيطرة على المنطقة ابتداءً من فلسطين، قلب الأمة العربية، وذلك بعد تخلّص هذه الجماعة من السلطان عبد الحميد، الذي رفض التخلّي عن فلسطين لليهود ولمشروعهم الصهيوني.
من هؤلاء الوطنيين، الشهداء شكري العسلي والأخوين محمصانيوعبد الكريم الخليل وعبد القادر الخرسا و محمود نجا العجم.
لقد وضع شباب المنتدى الأدبي الدعاية للقضية العربية، من أجل اتخاذ القضية العربية أساساً لكل عمل وفكرة، ومن أجل توحيد الشعور العربي وتعزيزه بدعاية منظمة، في سبيل نبذ أي خوف أو تردّد.
لقد وعى الشهيد عبد الكريم الخليل،"خطر النشاط الصهيوني في فلسطين، وتجرّأ بالجهر في كلمة باسم العرب أمام الصدر الأعظم سعيد حليم باشا، في الخامس من آب 1913 بالقول: ... وهناك مسألة ثانية وهي مسألة بيع الأراضي المدورة - الجفتلك – (التي يملكها أمراء من الأسرة العثمانية الحاكمة) في البلاد العربية، ولا سيما فلسطين. لأن دخول الأجانب إليها وحرمان أهاليها من مواردها، مما لا ترضونه فخامتكم؛ فألتمس من الحكومة السنيّة اتخاذ قرار قطعي موافق في هذا الشأن"[20] .
شهداء الواحد والعشرين من آب 1915
- عبد الكريم الخليل، من الشياح قرب بيروت،رئيس نادي "المنتدى الأدبي"، خريج مدرسة الحقوق.
- محمد المحمصاني، من بيروت،حاز على الدكتوراه في الحقوق من جامعات فرنسا، وألّف كتاباً بعنوان "الفكرة الصهيونية".
- محمود المحمصاني، تاجر من بيروت.
- عبد القادر الخرسا، أصله من دمشق ومقيم في بيروت، وهو من أشرافها.
- نور الدين القاضي، من بيروت.
- سليم أحمد عبد الهادي، من قرية عرّابة في فلسطين،ومن أشراف قضاء جنين.
- محمود نجا العجم، من بيروت.
- محمد مسلّم عابدين، مأمور أوقاف لواء اللاذقيّة من دمشق، وصاحب جريدة دمشق.
- نايف تللو، من دمشق،وهو المكلَّف بمأمورية تحصيل لواء الكرك، وقد عمل صحفياً مراسلاً لجريدة المقتبس.
- صالح حيدر، رئيس بلدية بعلبك.
- علي الأرمنازي، من حماة، وصاحب جريدة "نهر العاصي".
أما السيد حافظ سعيد، من يافا، مبعوث القدس السابق:فتمّ تخفيف حكم الإعدام بحقهإلى حكم بالسجن المؤبد.
كذلك الأمر بالنسبة للسيد سعيد الكرمي، من فلسطين، وهو مفتي قضاء بني صعب.
شهداء 6 أيار 1916 في دمشق
- شفيق مؤيد العظم، من دمشق، ساهم في تأسيس عدد من الأحزاب والجمعيات السياسية القومية منها: حزب الإخاء العربي العثماني، الحزب الحر المعتدل، حزب الحرية، حزب الائتلاف، كما ساهم فينشر أفكار القومية العربية وفي السعي لاستقلال العرب.
- عبد الحميد الزهراوي، من حمص. تابع تحصيله العلمي في الآستانة والقاهرة، وعمل في الصحافة، وأصدر جريدة المنير في حمص. وعمل في صحيفة معلومات في الآستانة؛ انتخب سنة 1908 في مجلس "المبعوثان"، وترأس المؤتمر العربي في باريس سنة 1913.
- الأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق، كانت تهمته بأنه واسطة التعارف بين شكري العسلي وعبد الوهاب الإنكليزي وقنصل فرنسا. صادر جمال باشا أملاكه ومنها قصره في دمّر، وقد جعله السفاح مستوصفاً للضباط.
- شكري العسلي، من دمشق. أتمّ دراسته العليا في المدرسة الملكية في الآستانة، وعمل إدارياً في حكومة دمشق. انتخب عضواً في مجلس "المبعوثان"، وعرف بخطاباته دفاعاً عن الأمة العربية ومعارضة التتريك، ولا سيما معارضته لبيع الأراضي العربية في فلسطين لليهود. كان أديباً وروائياً وصحافياً.
- عبد الوهاب الإنكليزي، من غوطة دمشق،درس الحقوق في الآستانة، وتمّ تعيينه قائمقاماً في إحدى مناطق ولاية حلب، ومفتشاً للإدارة الملكية في بيروت، كما عمل في المحاماة؛ له العديد من المقالات في السياسة والاجتماع والتاريخ.
- رفيق رزق سلّوم، من حمص. درس في حمص وبيروت والآستانة؛ألّف كتاب "حياة البلاد في علم الاقتصاد"، وكتاب "حقوق الدولة"، كما ألّف رواية"أمراض العصر الجديد"؛كان حقوقياً ومارس الصحافة وتدريس اللغات الأجنبية (الروسية- اليونانية- التركية)؛ كان عضواً في الجمعية القحطانية، كما ساهم في تأسيس جمعية العهد.
- رشدي الشمعة، من دمشق. درس في إسطنبول الأدب والقانون، وانتخب نائباً عن دمشق في مجلس "المبعوثان"، وهناك دعا لمكافحة سياسة التتريك وللدفاع عن الثقافة العربية، وهو كاتب وشاعر معروف.
"غمر الضوء الساحة منذ المساء. فرض جمال باشا حتى إضاءة مسرح زهرة دمشق. نُصِبَت أعمدة الموت مقابل "المنزل". (...). لمح جمال باشا في "المنزل" يتفرّج على إعدام الرجال"[21].
وتتابع الدكتورة ناديا خوست في روايتها، فتقول: "... هذه مجموعة من رجال درسوا في أفضل المعاهد التركية والأوروبية، يمكنها أن تقود البلاد في أزمنة قادمة"[22].
كتب جمال باشا، حول أحكام الإعدام تلك، قائلاً: "حافظتُ على سلطة الحكومة وسطوتها في بلاد سمّمتْها الدعاية الإنكليزية والفرنسية"[23].
شهداء 6 أيار 1916 في بيروت
- بترو باولي، من التابعية اليونانيّة، مقيم في بيروت. أصدر مع رفاقه جريدة الوطن، ثم حرّر جريدة المراقب.
- جرجي الحداد، من جبل لبنان. كان أديباً، وامتهن الصحافة وأقام في دمشق، وقد نشر بعض المقالات الوطنية في جريدة العصر الجديد، طالب فيها باستقلال بلاده.
- سعيد فاضل عقل، من الدامور. كان مولعاً بنظم الشعر، وأصدر في بلاد الغربة جريدة صدى المكسيك وتولّى تحرير عدة جرائد في وطنه، وترأس تحرير جريدة النصير؛ كان ناشطاً في الحركة السياسية.
- عمر حمد، من بيروت. مصري الأصل، لبناني الولادة، درس اللغة العربية على يد أعلامها، وترك بعد استشهاده قصائد جُمِعَت في ديوان من مئة صفحة، حاول الفرار مع ثلاثة من رفاقه إلى البادية، لكنّ السلطات التركية ألقت القبض عليهم في مدائن صالح، شمال شبه الجزيرة العربية.
- عبد الغني العريسي، من بيروت. أصدر جريدة المفيد وكانت لسان العرب في دعوتهم إلى استقلالهم، وقد أوقفتها الحكومة التركية الطورانية عدة مرات، وفي العام 1914 انتقل مع جريدته إلى دمشق، ثم اختفى عن الأنظار مع إخوانه الشهداء وقبض عليهم في مدائن صالح.
- أحمد طبارة، إمام جامع النوفرة في بيروت. دخل معترك الصحافة وكان من البارزين فيها، أصدر جريدة الاتحاد العثماني وجريدة الإصلاح، وامتاز بقلمه البليغ في نصرة القومية العربية، وهو مؤسس أول مطبعة إسلامية في بيروت.
- محمد الشنطي اليافي.وهو مناضل عروبي من يافا.
- توفيق البساط، من صيدا.خدم في الجيش ضابطاً فيالاحتياط. ألقي القبض عليه مع رفاقه في مدائن صالح.
- سيف الدين الخطيب، من دمشق. مؤسس المنتدى الأدبي، وينتمي إلى أسرة مثقّفة، وكان شاعراً وأديباً.
- علي بن عمر النشاشيبي، من القدس. كان مثقفاً ومتعلّماً.
- محمود جلال البخاري، من دمشق. كان حقوقياً وعضواً في إحدى المحاكم الكبرى، وضابطاً كبيراً في الجيش التركي، طالب بالإصلاح.
- سليم الجزائري، من دمشق.كان من الضباط العرب في الجيش التركي وخاض حرب البلقان، واستشهد ببزته العسكرية بعدما رفض نزع شاراته ورتبته العسكرية.
- أمين لطفي الحافظ، من دمشق. من الضباط العرب.
- الأمير عارف الشهابي، كان محرّراً في جريدة المفيد، ومن المحامين اللامعين، هرب مع رفاقه إلى البادية وقبض عليهم في مدائن صالح، ويُعدّ من رواد القومية العربية[24].
وهناك العديد من الشهداء الآخرين
ففي القدس، في ساحة باب العمود، تمّ إعدام:
- أحمد عارف الحسيني.
- مصطفى أحمد الحسيني.
- علي الحاج عمر النشاشيبي.
ثم تمّ إعدام الشهداء التالية أسماؤهم:
- الخوري يوسف الحايك، من سن الفيل في بيروت، أُعدم في دمشق يوم 22 آذار سنة 1915.
- نخلة المطران، من أهالي بعلبك اغتيل قرب أُورفه، في 17 تشرين الأول سنة 1915.
- الشقيقان فيليب وفريد الخازن من جونية، في لبنان، أُعدما في بيروت يوم الثاني من أيار سنة 1916.
- عبد الله الظاهر، من عكار، أُعدم في بيروت يوم الأول من آذار سنة 1916.
- يوسف الهاني، من بيروت، أُعدم في بيروت في نيسان سنة 1916.
- محمد الملحم، شيخ عشيرة الحسنة، أُعدم في دمشق في أوائل سنة 1917.
- فجر المحمود، من عشيرة الموالي، أُعدم في دمشق، أوائل سنة 1917.
- شاهر بن رحيل العلي، ابن الشيخ رحيل بن العلي السليمان شيخ عشيرة التركي، أُعدم في دمشق،إثر إعلان الثورة العربية الكبرى.
- الشيخ أحمد عارف، مفتي غزة، وولده، من مدينة غزة،أُعدما في القدس الشريف، سنة 1917.
- الشقيقان أنطوان وتوفيق زريق، من طرابلس، أُعدما في دمشق، سنة 1916.
- يوسف سعيد بيضون، من بيروت، أُعدم في عاليه، في لبنان،يوم العاشر من شهر آذار، سنة 1916.
- مسعودالهليل.
اندلعت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي شريف مكة، ردّاً على هذه الجرائم، والتحق بها المتطوعون العرب من شتى أقطارهم. ودخلت طلائع قوات الثورة العربية، بقيادة سلطان ذوقان الأطرش، دمشق في 30/9/1918 وسط احتفالات شعبية، بعد معركة حامية الوطيس في تلول المانع بالقرب من الكسوة، ضد الأتراك والألمان؛ أما جيشا الأمير فيصل والقائد البريطاني أللنبي، فدخلا دمشق في 2/10/1918[25] .
ثم عقد المؤتمر الوطني السوري الذي أعلن استقلال سورية في 8 آذار 1920، وبايع الشعب العربي الأمير فيصل ملكاً على البلاد، منهياً بذلك استعماراً دام 400 سنة.
إلا أنّالعرب، للأسف، لم ينعموا بالحرية طويلاً، فتمّ تطبيق اتفاقية سايكس – بيكو التي قضتْ بتقسيم بلاد الشام إلى دويلات، بين بريطانيا العظمى وفرنسا؛ وقد بدأ تطبيق تلك الاتفاقية عملياً في العام 1918، لتتصاعد محنة بلاد الشام في24 تموز من العام 1920، إذ تصدّى وزير الحربية يوسف العظمة، في ميسلون لجيش فرنسا العظمى الغازي بقيادة الجنرال غورو. ووقع يوسف العظمة شهيد الحق والحرية، فادياً استقلال سوريا بروحه.
إنّ موقف الشهيد يوسف العظمة في رفضه لإنذار غورو الشهير وفي إصراره على ألا يدخل الاحتلال الفرنسي إلا على دمه ودماء شهداء معركة ميسلون في 24 تموز من العام 1920، هو أحد أسباب استقلال سوريا؛ ففي علم التاريخ، يُعتَبَر هذا الفعل الذي قام به وزير الحربية، الشهيد يوسف العظمة، أول لبنة في تحقيق الاستقلال. كل الذين استشهدوا على بطاح ميسلون هم أبطال يُعتَزّ بهم، ولكن ذهاب يوسف العظمة بقصد الفداء، ضرب مثلاً تعدّى البطولة المحدودة بالزمن وبالمناسبة إلى "المثل" الخالد على مرّ الدهور.
لقد أثبت يوسف العظمة باستشهاده أن الاستعمار "لا يمكن له أن يمرّ إلّا على أجسادنا"، ولا يمكن لنا تسليم البلاد دون مقاومة!
لكنّ أحرار بلاد الشام لم يسكتوا على الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، فاندلعت الثورة السورية الكبرى، بقيادة سلطان ذوقان الأطرش، في تموز من العام 1925، وامتدّت لتشمل أنحاء واسعة من بلاد الشام، واستمرت حتى العام 1937[26]. وقد قدّم جبل العرب وحده أكثر من ثلاثة آلاف شهيد.
وكانت الطامة الكبرى، التي ما نزال نعاني من مآسيها حتى اليوم، هي إصدار وعد بلفور، في أوائل تشرين الثاني 1917، الذي حضّر لسلخ فلسطين الحبيبة عن سوريا الأم.
واندلعت الثورة الفلسطينية في العام 1936، بقيادة عز الدين القسام، السوري، من جبلة، الذي استُشهِدَ على أرض فلسطين، كما استُشهِدَ سعيد العاص، الذي شارك في الثورتين الكبريين، السورية والفلسطينية.
إن روح الفداء العابقة في بلاد الشام، في سبيل حرية الوطن واستقلاله، لا تزال جذوتها متّقدة حتى يومنا هذا.
لقد تربّى جيلنا على أهمية الفداء في سبيل الوطن، وكان لأسماء لامعة، لخيرة شباب وشابات الوطن الفدائيين، الأثر الكبير في هذا الجيل: فمن جول جمّال إلى كمال ناصر إلى دلال المغربي وأحمد قصير وسناء محيدلي وهادي نصر الله وسمير القنطار... وآخرين كثر.
هي أسماء شكّلتْ، بالإضافة إلى أسماء شهداء أيار 1916، ذاكرتنا الجمعية التي ما تزال تغذّي صمود الناس في بلاد الشام، بالرغم من كل المآسي التي يعيشونها إلى يومنا هذا!
فجول جمال،من مدينة اللاذقية، شبّ على حب العروبة والتضحية بنفسه فداء الوطن.
نال جول في العام 1956 شهادة البكالوريس في الدراسات البحرية، من مصر. وبقي هناك بعد التخرج، لأن مصر استوردت زوارق طوربيد حديثة، وقد رأت الحكومة السورية في ذلك الوقت أنه من الأفضل أن يتمّ تدريب ضباطها على تلك الزوارق الحديثة.
لكن الأحداث كانت تتعقد، خاصةً بعد اتخاذالرئيس جمال عبد الناصر في شهر تموز من العام نفسه، القرار بتأميم قناة السويس.
وعلى إثر ذلك القرار، خطّطت كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل سراً مؤامرة شنّ عدوان على مصر؛ وقد نفذت قوات تلك الدول الهجوم على مصر يوم 29 تشرين الأول من العام 1956، سُمِّيَ حينها بالعدوان الثلاثي على مصر.
في منتصف ليلة الرابع من تشرين الثاني 1956، التقط جول وأقرانه بثاً هوائياً للسفينة الحربية الفرنسية جان بارت، أو تنّين البحر المتوسط، كما كان يُطلَق عليها، وهي تقترب من الشواطئ المصرية، إذ كانت أول سفينة مزوّدة برادار في العالم وهي مجهّزة ب 109 مدافع من مختلف العيارات، ويتألف طاقمها من 88 ضابطاً و 2055 جندياً بحاراً، وكان هدفها الأساسي تدمير ما تبقّى من مدينة بورسعيد المصرية، التي أمست مدينة أشباح جراء قصف سلاح الطيران والبحرية البريطانيين.
فى تلك الليلة، خرجت ثلاثة زوارق طوربيد لمقابلة السفينة الفرنسية والتصدي لها، وفي أثناء اقتراب جول جمال من المدمّرة الفرنسية استطاع أن يصل إلى نقطة الصفر، أي إلى النقطة الميتة التي لاتستطيع مدافع المدمّرة الوصول إليه منها. وهكذا تمكّن من الوصول إلى المدمّرة الفرنسية لينفذ عمليته الفدائية، التي أدت إلى استشهاده وغرق جان بارت فخر البحرية الفرنسية آنذاك.
احتفى أهل مدينة اللاذقية بالصلاة على روح الشهيد؛ كذلك احتفت الجهات الرسمية والدينية، فنال الشهيد الأوسمة التي يستحقها.وسُمّيت عدة شوارع في مدن عربية عديدة باسم جول جمال تخليداً له.[27]
ولا تزال بلاد الشام، إلى اليوم، تتعرّض لهجوم أكثر شراسةً من الفاشية العالمية، المدعومة من الصهيونية العالمية ومن الرجعية العربية! الهدف من ذلك كلّه هو شرذمة المنطقة إلى دويلات طائفية وإثنية، تجعل من الوجود الصهيوني في فلسطين وجوداً طبيعياً وقوياً، بهدف السيطرة التامة على بلاد الشام ومنطقة الشرق الأوسط بكاملها!
"في السادس من مايو هذه السنة، يكتمل قرن على إعدام شهداء مايو ، حمّالي الفكر المتنوّر، وتحرير الوطن بالثقافة والتعليم، والاعتداد بالعقل الإنساني، مؤسسي النوادي، ذواقة الشعر وناظميه. وضع شهداء أيار بوصلة دقيقة: الوحدة الوطنية مع التنوع، الدين لله والوطن للجميع، وعداوة الصهيونية. فكيف أصبحنا بعد قرن من تنوّرهم وتسامحهم وسعة مشروعهم، أمام فكر تكفيري مظلم دموي، وصهيونية عربية؟
أُسِّسَت الحضارة العربية التي انطلقت إلى العالم من بلاد الشام، على التنوّر. زهت بتشييد المراصد وعمارة الجنّات، والمخطوطات والمكتبات، وتذوّق الغناء. كانت الجوامع في عصر الراشدين، نفسه، للحوار. الوهابية إذن، ليست ابنة هذا المكان!
نتناول هنا إشارات فقط إلى الدور السعودي: استُخدِمَت السعودية لكسر ثورة سنة 1936 على الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني. كانت الثورة الشعبية قد جمعت الريف والمدينة، وساندها مقاتلون سوريون ولبنانيون وأردنيون وعراقيون. فأخرجتهم السعودية من فلسطين بوعد: سيحلّ"أصدقاؤنا" البريطانيون مشكلة فلسطين! التزمت الأسرة السعودية منذ لحظة دخولها في الحماية الأمريكية، سنة 1945، بالاعتراف بحق اليهود في فلسطين، وطاعة الأمريكيين حتى يوم القيامة! ثم ضاعت الحدود بينهما، فاقترح الملك السعودي فيصل على الرئيس الأمريكي جونسون، سنة 1966، أن تحتل "إسرائيل" مناطق من سورية والأردن ومصر لتنشغل تلك البلاد بالاحتلال عن الوحدة والتحرير. وسلّح البارزاني وموّله ليشغل العراق بدولة كردية في الشمال. (...).
تقود السعودية الآن الحروب لتصفية الدولة القومية العلمانية. ليست الوهابية ديناً بل مشروع سياسي، نهج دمار شامل، وربما لحرب كونية تجرّ إليها إيران. "[28]
الخاتمة
في أواخر الألفية الثانية، دعت الدكتورة ناديا خوست أبناء سوريا إلى زيارة أضرحة شهداء السادس من أيار، تكريماً للشهداءوحثّاً للأبناء، نحن الذين ما نزال أحياء نرزق، على كسر صمت القبور وإحياء الذكرى، فعلاً لا قولاً فقط،لشهداء أيار من العام 1916، الذين كان لهم السَبَق فياستيعاب كل المخاطر التي كانت، وما تزال تحيق بنا: من خطر الصهيونية، إلى خطر التشرذم وعدم العمل أمةً واحدة للذود عن وطننا، إلى خطر تدمير بلادنا الذي نشهده اليوم، ومنذ بداية ما سمّي بالربيع العربي!!
ذهبنا، وكنا من مشارب متنوعة: أساتذة جامعات، موظفين، دبلوماسيين، ربّات بيوت، طلاباً، أقرباء لهؤلاء الشهداء... إلخ، بصحبة الدكتورة خوست، إلى مقبرة الباب الصغير ثم إلى مقبرة الدحداح، لزيارة الأضرحة جميعها... كنا لحظتَها في غاية التأثّر، خاصةً حين وقفنا في حضرة تلك القامات الشجاعة، المتنوّرة، التي استعذبت الموت في سبيل رفعة وطنها الغالي، وفي سبيل حمل رسالة التنوير، الهادفة إلى تحقيق وحدة البلاد ومنعتها،والتنبيه إلى المخاطر المتربّصة بها.
بعد زيارة أضرحة الشهداء، صحبتنا الدكتورة خوست إلى ساحة الشهداء، أو ساحة المرجة، وسط دمشق، كي نقف سوياً ونسترجع اللحظة التيصعدت فيها أرواح هؤلاء الأحبّة إلى بارئها، وهم يؤكّدون حتى النَفَس الأخير على إيمانهم بالعروبة وبالوحدة التي ستقف، في حال تحققت، عائقاً أمام تحقيق الحلم الصهيوني!
أين منّا اليوم، تلك الروح وذاك الإيمان الراسخ!
لقد شاهدنا النصب التذكاري لشهداء السادس من أيار في ساحة الشهداء، حيث حُفِرَت أسماؤهم عليه تخليداً لهم.
يومها تساءلتُ: كم من الناس في بلدي لديها فضول معرفة ما كُتِبَ على هذا النصب، ولديها الوفاء لزيارة أضرحة هؤلاء المُضَحّين بأغلى ما عندهم، أرواحهم، في سبيل الوطن الحرّ وفي سبيل أن نحيا أحراراً؟!
تذكّرتُ في حضرتهم، الشهيد ذوقان الأطرش، الشهيد العربي الأول، حسبما سمّتْه الدكتورة خوست، وهو والد جدّي سلطان، الذي لم يحظَ بضريح يضمّ جثمانه الطاهر، لكني شعرتُ، حين زرتُ أضرحة هؤلاء الشهداء الأحباء وكأني أزور ضريحه أيضاً.
في نهاية ذلك اليوم المشهود، احتضنتنا حديقة المتحف الوطني في دمشق، فجلسنا سويّاً نحتسي الشاي والقهوة، لنؤكّد معاً على أهمية هذه الزيارة التي قمنا به، على الرغم من بساطتها وعفويّتها... وتمنّينا لو أن مناهجنا التدريسية تأخذ بعين الاعتبار هذا النشاط اللا صفّي، كي يعتادطلبة سوريا جميعهم على تنسّم عبق التاريخ، ليبقى حيّاً في أذهانهم ووجدانهم، وكي لا يكون تاريخ الأمة بعيداً عن متناول أيديهم، فيلامسوا هذه الأحداث الهامّة ويشعروا بأنها جزء من حياتهم اليومية؛ فتترسّخ فيهمقيم الفداء التي تُعلي من شأن الأمة وتنير درب الأجيال القادمة.
بعد تلك الزيارة، ومنذ تلك اللحظة، وإلى اليوم، أردّد هذين البيتين للشاعر المعرّي:
صاحِ، هذه قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفِّفِ الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
***
1- الأطرش، سلطان باشا، أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش (1925-1927)، دمشق، دار طلاس، ط. 2، 2008.
2- الأطرش، سلطان باشا،www.sultanalattrache.org
3- جول جمّال (17/12/2013) http://www.discover-syria.com/news/14971
4- خازم، يوسف، شهداء ساحة البرج 6 أيار 1916: شهداء أم عملاء؟ السفير (2015) .
5- خوست، ناديا، حب في بلاد الشام: رواية، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1995.
6- خوست، ناديا، حروب الوهابية لتدمير الشرق الأوسط. https://www.alfatemya.com
7- خوست، ناديا، شهداء وعشاق في بلاد الشام: رواية، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 2000.
8- السادس من أيار عيد الشهداءhttp://www.discover-syria.com/news/3630
9- السواح، فراس، لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دمشق، دار المنارة، 1990.
10-شفيق العظم، أحد شهداء 6 أيار 1916http://www.syrianhistory.com/ar/photos/4689
11- الصفصاف: عيد الشهداء http://www.safsaf.org/word/2012/mai/32.htm
12- العجلاني، شمس الدين، السادس من أيار: عيد لملاحم البطولة والتضحية. (3/5/ 2015).
13- قرن مضى على الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا السفاح في بيروت ودمشق عيد الشهداء في السادس من أيار من كل عام هو أيضاً عيد شهداء الصحافة اللبنانية.
14- ويكيبيديا: الموسوعة الحرّة: عيد الشهداء. https://ar.wikipedia.org/wiki
[1]السواح، فراس، لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دمشق، دار المنارة، 1990، ص 273.
[2]المرجع السابق، ص 277.
[3]المرجع السابق، ص 279.
[4]المرجع السابق، ص 294.
[5]المرجع السابق، ص 343.
[6]السادس من أيار عيد الشهداء http://www.discover-syria.com/news/3630
[7]المرجع السابق.
[8]الأطرش، سلطان باشا، أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش (1925-1927)، دمشق، دار طلاس، ط. 2، 2008، ص 32.
[9]المرجع السابق، ص 34.
[10]المرجع السابق، ص 35.
[11]المرجع السابق، ص 35.
[12]المرجع السابق، ص 36.
[13]ويكيبيديا: الموسوعة الحرّة: عيد الشهداء. https://ar.wikipedia.org/wiki
[14]المرجع السابق.
[15]خازم، يوسف، شهداء ساحة البرج 6 أيار 1916: شهداء أم عملاء؟ السفير (2015) =
[16]المرجع السابق.
[17]المرجع السابق.
[18]خوست، ناديا، شهداء وعشاق في بلاد الشام: رواية، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 2000، ص 79.
[19]المرجع السابق، ص 79.
[20]انظر الهامش 15.
[21]انظر الهامش 18، ص 86.
[22]انظر الهامش 18، ص 87.
[23]انظر الهامش 18، ص 89.
[24]انظر الهامش 6.
[25]انظر الهامش 8، ص 52 – 53.
[26]كان سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى، يعتبر أن الثورة امتدّت لاثنتي عشرة سنة: ثمة سنتان من المعارك العسكرية، وعشر سنوات من المقاومة المستمرّة في المنفى. استمع إلى سلطان باشا الأطرش يتحدث عن ذلك في مقاطع صوتية على الموقع الألكتروني الخاص به: www.sultanalattrache.org
[27]جول جمّال (17/12/2013) http://www.discover-syria.com/news/14971
اقرأ أيضاً
|