![]() عدد القراءات 2046 2017-07-06 بقلم : د. ريم منصور سلطان الأطرش العَلمانية
تمّ نشر هذا البحث من مركز دمشق للأبحاث والدراسات وبتكليف منه د. ريم منصور الأطرش الملخّص
تتناول هذه الورقة مفهوم العَلمانية الإشكالي، فبعض الناس توحيديّ الإيمان بالله وبعضهم الآخر تعدديّ الآلهة في إيمانه، وثمة الملحدون و اللا أدريون. واجب الدولة هو ضمان حرية المعتقد لهم والمساواة في الحقوق. فكيف السبيل إلى ذلك؟ نتطرق في هذه الورقة إلى إمكانية أن تصبح العَلمانية، مبدأً في الحياة السياسية للدولة، قادرة على تحقيقه. ونبحث في العلاقة بين العَلمانية والدين، بمختلف رسالاته السماوية، وإمكانية الاعتماد على بعض النصوص الدينية لتدعيم فكرة تطبيق العَلمانية. ونقدم، باختصار، السياق التاريخي لنشوئها. تحاول هذه الورقة تحديد ماهية الفرد العَلماني الذي لا يميّزه انتماؤه للجنس أو العرق أو اللون أو العقيدة أو الأيديولوجيا، بأيّ ميّزة تجعله يمتلك سلطة يفرضها على الآخرين. ثم نتطرّق إلى العَلمانية والمجتمع العَلماني، ومقتضياتها الهادفة لترسيخها مرجعيةً للحياة السياسية في الدولة. ونحاول التركيز على أهمية الفضاء الديمقراطي، الذي لا تستقيم العَلمانية من دونه، وعلى أهم وسائل تطبيقها، وهي عَلمَنة التعليم العام، للوصول إلى تحقيق المواطنة.
وفي السياق، نبحث في كيفية تناول بعض مفكّري النهضة العربية، من مسيحيين ومسلمين مشرقيين، وغيرهم، مفهوم العَلمانية في بلادنا. ثم نتطرّق إلى إشكالية العَلمانية في سوريا، لنبحث في إمكانية تطبيقها في سوريا اليوم، وفي العقبات السياسية والدستورية والقانونية والاجتماعية، وفي ما يتعلّق بالمرأة، وكيفية تذليلها. كما نتطرّق إلى العَلمانية والديمقراطية في المجتمع السوري وعلمانية حزب البعث العربي، ونقدم بعض المقترحات من أجل تطبيقها في سوريا. كما نعطي فكرة سريعة عن اختلاف الدولة المدنية عن الدولة العَلمانية. نطرح، في الخاتمة، أسئلة يثيرها العالم اليوم، يوضع فيها مصيرُ العَلمانية على المِحَك. ونخلص إلى أن المَثَلَ الأعلى العَلماني ما يزال يصلح لإعطاء الأملِ مجدداً للجميع في حياة مزدهرة تتحقق فيها المواطنة وتتفتّح فيها قيم الحق والخير والجَمال، ضمن جو من الحرية والديمقراطية.
الكلمات المفتاحية
العَلمانية – حرية المعتقد – المساواة في الحقوق – المواطنة – المَثَل الأعلى العَلماني – عَلمَنة التعليم العام – الحياد الديني - حيادية الدولة – التسامح – الديمقراطية - مفكّرو النهضة العربية - الحيادة – سوريا - الدستور – قانون الانتخاب – قانون الأحوال الشخصية – المرأة - الزواج المدني الخياري – المؤسسات الدينية.
مقدمة
إنّ بعض الناس موحّدون في إيمانهم بالله وبعضهم الآخر يؤمن بتعدد الآلهة وهناك أيضاً الملحدون وثمّة مَنْ لم يقرروا بعدُ موقفَهم من هذا الموضوع، أي مَنْ نطلق عليهم اسم اللا أدريين. ولكنهم، جميعاً، يجب أن يعيشوا معاً ضمن جو من حرية المعتقد والمساواة في الحقوق، على السواء، وحرية التعبير والمجاهرة بعقائدهم المختلفة. فحرية المعتقد هي على النقيض تماماً من أي نوع من الإكراه في الدين أو في الأيديولوجيا؛ كما أن المساواة في الحقوق تتنافى مع إعطاء قيمة مميزة لأي عقيدة، سواء كانت عقيدة دينية أو عقيدة إلحادية. وهكذا، فعلى السلطة العامة إذن أنْ تكون محايدة على الصعيد الديني، فهي سلطة مشتركة بين الجميع، وبالتالي عليها أنْ تتخذ من الحياد الديني مبدأ لها، غير قابل للمساس، لكنه ضمان لعدم التحيّز. وهكذا، يستطيع الإنسان التماهي في الوطن، إذ يجد كلُّ فرد نفسَه متساوياً مع الآخرين مهما تكن معتقداتُه الروحية والأيديولوجية: ملحدة كانت أم دينية، أم غير ذلك... أما بالنسبة لمسألة المساواة في الحقوق، فهي تتطلّب إجراءات عادلة في اتخاذ القرارات على المستويات القانونية الأساسية، من أجل التأكيد على حيادية الدولة.
هذا هو تعريف مبدأ العَلمانية بشكل أوليّ... فأي شيء ينبثق عن مجموعة من الناس، حتى لو كانت تشكّل الأغلبية العددية في مجتمع بعينه، لا يمكن فرضُه على الجميع، وبالتالي ليس ثمة من وصاية تكرّس أي امتياز لفئة مجتمعية على أخرى. ففي الدولة العَلمانية، يتمتع الجميع بالسلطة العامة التي تُبرز دائماً ما يوحّد الناس؛ كما يتعلّم كلُّ فرد في المجتمع كيفية أن يحيا قناعاتِه الخاصة بإقصاء التعصّب وإحلال التسامح محلَّه. وهكذا، يؤدي ذلك إلى نفي كل أنواع الامتيازات، بالرغم من الفروق الفكرية، وبالتالي يؤدي إلى تفادي أي عنف يمكن له أن ينشأ نتيجة شعور مجموعة ما بامتياز تتمتع به دون غيرها.[1]
العَلمانية قيمة إنسانية أساسية، وهي تهتم بتوحيد الناس ضمن الدولة، وتفترض تباعداً بين حياة الإنسان الخاصة وبُعدِه العام كمواطن: فهو في حياته الخاصة يتبنّى قناعة روحية، سواء كانت دينية أو غير دينية، ويستطيع أن يحياها بحرية مع الآخرين؛ وبالتالي سيبقى ثمة من خط واضح وفاصل بين الفضاءين الخاص والعام. تفترض العَلمانية الحياد تجاه جميع الأديان والأيديولوجيات، فتؤكد على قيمة الإنسان بصرف النظر عن معتقده الديني؛ كما تؤكد على استقلال الممارسة السياسية واستقلال المؤسَّسات التربوية والصحية والاجتماعية عن الانتماء الديني، واستقلال قوانين البلاد عن الشرائع الدينية؛ وتؤكد أيضاً على استقلال القيم الإنسانية، كالعدالة والمساواة والديمقراطية والحرية، عن المصادر الدينية؛ وتؤكد على استقلال الوظيفة الحكومية عن الانتماءات الطائفية أو الإثنية؛ وبالتالي، فإنها لا تقبل بالفيدرالية الطائفية أو الإثنية. في الواقع، إنّ النظام العَلماني حاضن لحرية جميع الأديان والمعتقدات، فهو يضمن للمؤمنين ولغير المؤمنين الحق ذاته في حرية التعبير عن قناعاتهم، إضافة إلى أنه يضمن لهم حق تغيير الدين والانتماء إلى دين آخر. وثمة إطار قانوني ينظم كل ذلك، وهو الدستور.
وفي طرحنا لسؤال أساسي حول العلاقة بين العَلمانية والدين، نجد من منطلق تعريف العَلمانية، بأن التحرر العلماني ليس معادياً للدين، كما هو سائد في أذهان بعضٍ منا، بل إنه يحاول التأكيد على التمايز بين الإنسان كَفردٍ وبين الشخص العام وهو المواطن، دون اللجوء إلى أي نوع من العنف. وهذا من أساسيات حقوق الإنسان.
وهنا، يمكن القول بأن عَلمانية الدولة تتلخّص في إمكانية إدارة الناس لشؤونهم الدنيوية، وهو أمر مدني، وليس دينياً، في إطار دولة مدنية، فتجعل بالتالي الدولة حياديةً تماماً أمام عقائد مواطنيها، فتسمح للدين بالنمو والازدهار بعيداً عن القمع، وذلك على عكس الدولة التي تتبنى عقيدة دينية ما، أو عقيدة إلحادية، فتقوم بقمع مواطنيها والمجموعات الدينية المختلفة عن تلك العقيدة المتبنّاة: مثال: المملكة العربية السعودية والاتحاد السوفييتي السابق.
لكنْ، ثمة من يعترض على التأكيد على إدارة شؤون الناس الدنيوية بعيداً عن الدين، محتجين بأن الدين يعزّز الأخلاق، التي لا بدّ منها في إدارة شؤون الناس. في كتابه، "الأسس الفلسفية للعَلمانية"، يؤكّد الأستاذ عادل ضاهر، على أنّ "المعرفة الأخلاقية فطريّة ولا تحتاج إلى الوحي"[2]. وبالتالي، فإن المعرفة الأخلاقية لا تستوجب بالضرورة المعرفة الدينية، سماوية كانت أم غير سماوية. فالنظام القائم على الأيديولوجيا ذات الطابع الشمولي المطلق، دينية كانت أم غير دينية، لا تمكّن المجتمع من السماح بالتعددية السياسية أو الاقتصادية أو التربوية، وهذا ما يؤدي إلى القضاء على استقلالية الفرد في المجتمع، وبالتالي يقلّص من تفتّح الممارسات الأخلاقية العامة. نتيجة شعور الناس بطغيان تلك الأيديولوجيا.
السياق التاريخي لنشوء العَلمانية
يرد، عن تعريف العَلمانية، في كتاب الأستاذ شبلي العيسمي، "العَلمانية والدولة الدينية"، ما يلي: "هي جملة من التدابير جاءت وليدة الصراع الطويل... بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا، واستهدفت فكّ الاشتباك بينهما، واعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة، بما يضمن حياد هذه تجاه الدين، أي دين، ويضمن حرية الرأي... ويمنع رجال الدين عن إعطاء آرائهم... صفة مقدسة، ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة."[3] نشأت العلمانية، كما نعرفها اليوم، في عصر النهضة، في أوروبا؛ وقد نشأت بالتوازي معها دولة المواطنة، التي تعامل مواطنيها دون تمييز بينهم مطلقاً، إنْ كان ذلك في اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو غير ذلك. بدأ عصر النهضة بثورة فكرية لإصلاح الكنيسة[4]، في العام 1516. ترافق هذا الإصلاح الديني بالدعوة إلى رفض التقاليد وإعمال العقل وتطوير المعرفة. ومع نشوء الثورة العلمية واكتشافاتها، نشأت أيضاً الثورة الصناعية، التي اعتمدت على منتجات الثورة العلمية.
في القرن التاسع عشر، تمّ طرح فكرة انتخاب الحاكم بالاقتراع العام، فنشأ نظام مدني، يتمّ فيه سنّ قوانين تتناسب والعقد الاجتماعي، وهي فكرة فلسفية تعبّر عن الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطنين ودولتهم، وهذا ما أدّى إلى إلغاء تعسف الممالك، التي كانت تعتبر أناسها رعايا، في ما قبل عصر النهضة.
ظهر مصطلح laïcité (العَلمانية)، في فرنسا، في العام 1871. كان قد استُخدِمَ لأول مرة، في العام 1846، من الكاتب والفيلسوف البريطاني جورج هولي أوك (secularism). لكننا يمكن أن نقول إنّ جذور هذا المفهوم تعود إلى الفلاسفة الذين دعوا إلى التمييز بين الفلسفة والدين، مثل ابن رشد، في القرن الثاني عشر الميلادي. ولقد جاءت الثورة الفرنسية، في العام 1789، لتجلب معها مجموعةً من الأفكار والإجراءات العَلمانية، منها: "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي نصَّ على أنه: "لن يخشى أحد من آرائه، حتَّى الدينية منها، شريطة عدم إثارة ممارسته لها لأيِّ اضطراب في النظام العام المحدَّد في القانون". أما في العام 1905 ، فصدر في فرنسا قانون فصل الدين عن الدولة، الذي نصّ على حق المواطنة الكاملة للفرنسيين ووضع حداً لتأثير الكنيسة على المعتقدات والدستور. في نطاق العَلمانية الفرنسية مثلاً، تمّ إقرار الزواج المدني وإلغاء دور الكنيسة في توثيق حياة المواطنين، وذلك بحصر القيود المدنية في المؤسَّسات الرسمية، وبعدم تحديد دين للمواطن في القيود الرسمية. وفي مجال التعليم، تمّ إلغاء التعليم الديني في المدارس العامّة، وإبعاد رجال الدين عن التعليم العالي. ينصّ قانون فصل الدين عن الدولة، في العام 1905، على أنّ: "الجمهورية تحمي حرية المعتقد، وتضمن الممارسةَ الحرة للعبادات بما فيها الصالح العام"[5]. وهو يعاقَبُ كلُّ مَن يحاول، بطريقة أو بأخرى، التأثير على شخص آخر بدفعه إلى ممارسة عبادة ما أو بالامتناع عنها.
من هو الفرد العَلماني؟
الفرد العلماني هو: الفرد الواحد من الشعب الذي لا تميّزه أي حقوق ممتازة عن الآخرين، وبالتالي فهو لا يتمتع بمرتبة أعلى منهم. فلا مسؤولية له عن الضمير العام، ولا سلطة له ليفرضها على الناس، كي يحدّد لهم ما يؤمنون به. من هنا، يمكن أن يكون الفرد العلماني مؤمناً أو ملحداً أو لا أدرياً. وهكذا، فالعلمانية لا تتبنى توجهاً يمنع التدين أو الإيمان، إنما ترفض أي سلطة تنبع من هذا التدين على الآخرين. إذن قضية العلمانية هي مع السلطة لا مع المعتقد الخاص. من حق كل فرد أن يتبنى معتقداً أو لا يتبنّاه، شرط أن يبقيه في حيّزه الخاص ولا يمارس، من خلاله، أي سلطة على الآخرين.
العَلمانية والمجتمع العَلماني
تقتضي العَلمانيةُ إجراءات تشريعية وقانونية تسمح للمواطنين بالتعبير بحرية عن خِيارهم الروحي الذي يبقى شأناً خاصاً بالفرد في المجتمع العَلماني، وفيه يستطيع الجميعُ الاعترافَ ببعضهم بعضاً، دون أن تدّعي أيُ جماعة، حتى لو كانت تمثّل الأغلبية في المجتمع، بأنها تتحدث باسم هذا المجتمع؛ وبالتالي، فهي لا تستطيع الادّعاء بأن لها الحق في احتكار كامل الفضاء العام. فالحياد الديني للدولة العَلمانية في المجتمع العَلماني لا يعني أنها أهملت القيم الأخلاقية، بل على العكس تماماً. فهي قد اختارت حريةَ المعتقد والمساواة في الحقوق للجميع. فالفضاء العَلماني ليس انحيازاً للتعددية الدينية ولا للأحادية: إنه فضاء لا ديني، يتضمّن تعريفاً غير عنصري للمواطنة، كونها رابطاً من الحقوق والواجبات المتبادلة للأفراد، بغض النظر عن الدين والجنس واللون والقومية وغير ذلك من الأمور التمييزية المقيتة. كما تتضمّن تعريفاً لحقوق المواطنة، يشمل الاعتراف بالحريات المتساوية للجميع بما فيها حرية التفكير وحرية التعبير، وبالتالي حرية التدين أو حرية الإلحاد؛ وهذا يشمل، طبعاً، الحقوق المتساوية للمرأة و"الأقليات"، التي لن تعود كذلك في ظل العَلمانية، ضمن إطار المواطنة المتساوية. ويتضمن المَثَلُ الأعلى العَلماني فكرتين أساسيتين: أولاً: الفصل بين المشترك بالنسبة للجميع وبين الحرية الفردية في الحيّز الخاص. ثانياً: سيادة الإرادة الحرّة في الحياة المشتركة التي تتميّز بيقظة الضمير وإعمال العقل وتفعيل الأخلاق. إن الحياة المشتركة لا تعطي للآخر إمكانية الإشراف على معتقد المرء وبالتالي فرض ديانة ما عليه، إنما هذا يتطلّب التقيّد بقواعدِ تعايشِ حرياتنا جنباً إلى جنب.[6]
الاستقلال والمرجعية العَلمانية والديمقراطية
يمكن القول، إذن، بأن العلمانية تتطلب لتطورها مجتمعاً ديمقراطياً ودولة ديمقراطية. كما تتطلّب المرجعية العَلمانية أناساً ضمائرُهم متحررة، وتكون قادرة على سَنِّ قوانين توحّدهم. وهنا، يأخذ مفهومُ الاستقلال معناهُ التام: فالشعب ذو السيادة هو الذي يضع لِذاتِه قانونَه، وهو ذاتُه منبع القانون الذي يَدين له بالطاعة. وهذا ليس خضوعاً أو عبودية. فمِن أجل أن يكون المجتمعُ الإنساني واحداً، لا بدَّ لأعضائه من الموافقة على المبادئ التي يُبنى عليها: مثلُ تبنّي الدستور بطريقة التصويت الحرّ. إن كلمة عَلمانية تؤكد على الثقةَ بمبدأ سيادة الشعب على نفسه. تشير الديمقراطية والعَلمانية، بمعنىً ما، إلى فكرة واحدة، وهي سيادة الشعب على ذاته بما أنه لا يخضع لأي سلطة أخرى سوى لتلك التي تصدر عنه. تستهدف فكرةُ العَلمانية وحدةَ الشعب ذي السيادة المرتكِزة إلى المساواة الصارمة في الحقوق، ومرجعيتُها في ذلك الصالحُ العام - الذي يعطي لكل فرد القدرة على الفعل الخيّر الحرّ- وأفقُها هو الديمقراطية. وبالتالي، لا تخصيص لبعض الناس، أياً كانوا، بسلطة مذهبية: فأنا إنسان ومواطن قبل أن أكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً... إلخ، أو مفكّراً حراً. إن الأفقَ العَلماني هو شعورٌ بالحرية وتصميمٌ على استخدامها استخداماً جيداً؛ وعلى المرء أن يحترمَ حقَ الإيمان أو عدمَ الإيمان وحقَ التفكير مادام ذلك يعبّر عن حقٍ أساسي للفرد. يمكن عندئذٍ لليهودي والمسيحي والمسلم والبوذي والملحد أن يعيشوا معاً بسلام منذ اللحظة التي يصبح فيها الخِيارُ الروحي لكل فرد أمراً خاصاً به، أي لا يدّعي الهيمنة على الفضاء العام. وفي حال قام بهذه الهيمنة، فإن الوضع ينقلب إلى العنف، فيتمّ تهديد حريةَ التعبير الديني نفسها. إذن، من الخطأ وضعُ الحرية الدينية في مواجهة العَلمانية، في الوقت الذي يسير فيه الاثنان متلازمَيْن معاً.
عَلمَنة التعليم العام: أهم وسائل تطبيق العَلمانية
ترتكز العَلمانية إلى ثلاث ضرورات هي: حرية المعتقد والمساواة بين كل المواطنين، أياً كانت قناعاتُهم الروحية أو جنسُهم أو أصلُهم، والتطلّع للصالح العام والخير المشترك للجميع، مبرراً وحيداً لوجود الدولة. وأهم وسيلة لذلك هي علمنة التعليم العام، بدءاً بالمدرسة العامة وصولاً إلى التعليم العالي العام. أما في الدرسة، فيتحقق ذلك بعدم خضوعها لسلطة الدين، كي تصبح بحق مدرسةَ الجميع. هي ليست ضد الدين بل هي مدرسة غير دينية؛ وبذلك، فإنّ المدرسة التي تنتمي للفضاء العام، تترك للحيّز الخاص فسحة واسعة للاهتمام بالخِيار الروحي للفرد. أما التعليم، فيجب أن يكون عاماً، يهتم ببناء القدرة على المحاكمة المتنوِّرة والمتعقِّلة للإنسان. كما يمكن لهذه المدرسة أن تضع أسساً لثقافة مشتركة، أهم اهتماماتها هما العقل والحقيقة. أما منهاجها، فيؤكّد على إعمال التفكير والنقد بحرية مسؤولة، ولا يهتم بالتلقين والتقليد، ولا يؤكّد مطلقاً على دين معيّن أو معتقد معيّن، دنيوياً كان أو غير دنيوي. هذا الفصل بين الدين والتعليم في المدرسة العَلمانية لا يعطي الحقَ لأنْ يحلَّ دينٌ آخرَ أو أيديولوجيا أخرى محلَّ الدين المميَّز الذي تمّ فصله عن التعليم. إن علمنة المدرسة تحتاج إلى تربية للتلاميذ منذ الصغر، كما أن الديمقراطية تحتاج إلى تربية منذ الصغر في البيت والمدرسة، ولا تأتي هكذا بين ليلة وضحاها. وفي التعليم العالي السوري، يمكن إلغاء كلّية الشريعة واستحداث معاهد عليا خاصة بتدريس الأديان، غير ربحية، كي يستطيع الانتساب إليها كل مَنْ يرغب في ذلك، فيدرس فيها الطلبة، الشريعة الإسلامية أو اللاهوت المسيحي، بأساليب متطورة تلحظ التفاسير الحديثة للكتب المقدسة في الديانتين المسيحية والإسلامية التي ظهرت في القرن العشرين، كي لا تُبقي الطلبة في وضع فكري متحجّر!
المَثَل الأعلى العَلماني والمواطنة تبقى العَلمانية مَثَلاً أعلى يتيح للجميع، مؤمنين وملحدين، العيشَ معاً دون أن يذِمَّ بعضُهم بعضاً بسبب قناعاته الخاصة. وهو موجود من أجل النهوض بما هو مشترك بين الناس وليس بما هو خاص فقط ببعضهم. وفي المدرسة العامة المفتوحة للجميع، يتمّ احترامُ حرية المعتقد وبالتالي احترامُ الحيّز الخاص للفرد، فالتربية هي على الحرية وعلى استخدام المعرفة والثقافة المتعقِّلة وشاملة التنوّع، وهذا شرط هام من أجل استقلال الرأي. في الدولة العَلمانية، تخضع الأفعالُ للقانون، المنبثق عن إرادة مجموع الشعب، وبالتالي لا يوجد تمييزٌ بين العقائد رسمياً. فتربيةُ الضمائر على الفكر الحرّ وقمعُ الأفعال التي تعرِّض سلامةَ الحريات للخطر، عن طريق تطبيق القانون، هما محوران متكاملان. والتسامح مطلوب لمنع الفوضى الناشئة عن اضطهاد المعتقدات، ولمنع العنف المضاد الناشئ عن مقاومة هذا الاضطهاد. فغيابُ التسامحِ هو الذي يسبّب الفوضى. وبالتالي، فإنّ التعددية الروحية تحتاج إلى مساواةِ الناس كلِّهم من حيث المبدأ، كي تنعمَ هذه التعددية الروحية بشرط الازدهار والنمو. في المَثَل الأعلى العَلماني، ثمة مقامٌ أساسي للعقل، إذ إنه قدرة نقدية بامتياز. وتتحقق إنسانية الإنسان من خلال إعمال العقل، وبالتالي تتحقق المواطنة المرتكزة على حُب القوانين والمساواة، حيث تلتقي بالصالح العام، فيتمّ إظهار الرابط بينه وبين الإنجاز الشخصي[7] . فالمواطن الذي يقوم بإنجاز علمي شخصي لاستخدام الطاقة المتجدّدة، مثل تطويع الطاقة الشمسية للتدفئة و التسخين والإنارة، يقوم بتفعيل مواطنيته في خدمة الصالح العام وتعميم الخير على الجميع.
السياسة والدين شعب الله المختار المثال الأهم عن العلاقة بين السياسة والدين، نجده في العهد القديم، في مقولةِ "شعبِ الله المختار" التي أدت إلى القمع والعنف. إلا أنّ هذه المقولة تحمل قيمة تاريخية، وبالتالي فهي نسبية؛ إذن، لا يمكن تبريرُ مشروع الاستيطان الصهيوني من خلالها، كما لا يمكن تبريرُ ظلمِ الشعب الفلسطيني، خاصة وأن مقولة "أحبَ لأخيك ما تحب لنفسك" لا تزال تحتفظ ببعدها الإنساني الحقيقي. في الكيان الصهيوني مثلاً، نجد أنّ التواطؤ اللاهوتي والسياسي قائم بشكل كبير انطلاقاً من مقولَتَيْ "الأرض الموعودة، وشعب الله المختار"، وذلك عبر تهويد القدس وتوسيع الاستيطان ومصادرة أراضي العرب في فلسطين وحرمان الفلسطينيين من توقّعهم لقيام دولة متصلةِ الأرض وقابلةٍ للحياة اقتصادياً. إذ إن "الأيديولوجيا الصهيونية [تمزج] المفاهيم الدينية بالمفاهيم القومية".[8] ومن المهم أن نلحظ "أن الصهيونية وُلِدَت ضمن إطار نظريات الفكر الإمبريالي وخططه في العقود الأولى من القرن التاسع عشر في أوروبا".[9]
المسيحية والعَلمانية المثال الآخر، نجده في العهد الجديد، وهو قول السيد المسيح:"أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"[10]: والقصدُ منه فكُ الارتباط بين السياسة والدين واستقلالُ الأولى عن الثاني. خاصة وأن الدين مسألةٌ روحيّة بحتة لا يمكن دمجُها بالوجود الزمني المحكوم بالسلطة السياسية. وبالتالي، ثمة مملكتان: الأولى مملكة الأرض والثانية مملكة السماء. لقد وقفت الكنيسة في أوروبا، ضد العلمانية في بداية نشوئها مطالبة بتكريس دورها، سلطةً دينية ومدنية في الوقت عينه، بالرغم من هذه الآية الواردة في إنجيل متى! لكنّ البحث عن نصوص وممارسات دينية تدعم العَلمانية، قد يكون من العوامل المساعدة على لفت نظر أصحاب العقائد الدينية إلى عَلمانية الدولة. وفي هذا الإطار، يمكن استخدام الآية الوارد ذكرها آنفاً من أجل خلق إجماع أوسع داعم للعلمانية في أوساط المؤمنين المسيحيين الذين لا يزالون يرفضونها.
الإسلام والعَلمانية وفي الإطار السابق ذاته، يعود بعض الكتّاب العرب إلى نصوص دينية، من أجل إظهار عدم تناقض العلمانية مع الدين الإسلامي. فيشار في هذا الإطار إلى آيات قرآنية مثل "لستَ عليهم بمسيطر"[11]، والتي تعني أن الرسول لا يحق له فرض سيطرته على الأمة باسم الدين، وترك أمورها لها لتقرر في شأنها؛ وأيضاً: "لا إكراه في الدين"[12] ؛ و"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"[13] ؛ كما يشار إلى أحاديث نبوية مثل: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم". إضافة إلى أن عقد "صحائف المدينة"، الذي عقده الرسول محمد في المدينة المنورة مع أهلها من مسلمين ويهود، نص على فصل التشريعات الدينية بين المسلمين واليهود، بينما كانوا يعملون معاً لإدارة شؤونهم المدنية، في ظل الدولة المشتركة؛ وفي ذلك تجسيد لفكرة المواطنين المتساوين الذين يعملون معاً لإدارة شؤونهم المدنية، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية. كما نجد أنّ الرسول لم يختر خليفة له لحكم المسلمين، بل ترك هذا الأمر لهم ليقرروه هم، كونه شأناً دنيوياً وليس أمراً سماوياً.
كيف تناول بعض مفكّري النهضة العربية مفهوم العَلمانية في بلادنا؟
لقد نشأ تيار يسعى للتوفيق بين الإسلام والعلمانية مع رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، في القرن التاسع عشر، وتطور مع آخرين، في القرن العشرين، منهم الدكتور نصر حامد أبو زيد، اعتقدوا بعدم وجود أي نص ديني يربط الإسلام بالسياسة.
كتب الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801- 1873)[14] كتابه المعروف: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وضّح فيه ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما أشاد بما أعجبه وانتقد ما لم يعجبه، وعقد المقارنات بين أحوال فرنسا وأحوال مصر التي ينبغى إصلاحها. فقال عن باريس، إنه رأى هناك الإسلام، لكنه لم يرَ مسلمين، وذلك على عكس القاهرة، حيث يوجد مسلمون لكنه لل يرَ فيها الإسلام!
أول مَنْ أطلق شعار، "الدين لله والوطن للجميع"، هو المعلّم بطرس البستاني (1819-1883)، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ردّاً على مذابح العام 1860؛ ولم يكتفِ بذلك، بل أسّس في بيروت، في العام 1863، في زقاق البلاط، مدرسة وطنية عَلمانية مختلطة، ضمن بحر من المدارس الطائفية! كما أطلق شعاراً آخر هو "فصل السياسة عن الرياسة"، أي "فصل السياسة عن السُلطة الدينية"؛ إذ إن غاية الدولة هي دنيوية محضة.[15]
أسّس محمد عبده (1849-1905) وجمال الدين الأفغاني (1838-1897)، في أواخر القرن التاسع عشر، جريدتهما "العروة الوثقى" في باريس. وقد استخدم محمد عبده كلمة "دهرية" لترجمة كلمة laïcité الفرنسية. وبالنسبة له، فالدولة مدنية وإسلامية: هو يميز بين الدين والدولة، لكن دون فصل ودون اتحاد بينهما. ثمة أقوال للإمام محمد عبده تؤكد على مدنية الدولة: "فالحاكم فيها مدني من جميع الوجوه".[16] ومع ذلك، فقد هاجم محمد عبده السلطة الدينية من أساسها، لأن الإسلام يرفضها أصلاً، قائلاً: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، في سبيل الدعوة إلى الخير وتنفير الناس من الشر. أما المفكر فرح أنطون (1874-1922)[17] ، فقد استبدل العَلمانية بكلمة "الحيادة"، للدلالة على الدولة المدنية المحايدة تجاه عقائد مواطنيها.
كتب الإمام عبد الرحمن الكواكبي، (1855 – 1902)، في كتابه الشهير، "طبائع الاستبداد"[18]، آراء هامّة، منها، أن المسلمين اختلفوا في الدين حين اختلفوا في السياسة. ومن الخطأ المُبين تلازم الدولة والدين. وكان من رأيه ضرورة التمييز بين الدولة والدين، إذ إنه في حال سقطت الدولة، فيجب ألا يسقط الدين[19]. كما أنه رفض رفضاً قاطعاً تدخّل علماء الدين في السياسة".[20]
في كتابه "طبائع الاستبداد"، كتب يقول: "... بين الاستبدادين السياسي والديني مقارنة لا تنفك متى وُجد أحدهما في أمة جرّ الآخر إليه... ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطّع في الدين أي تشدّد فيه إلا واختلّ نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه... إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي".[21]
ويقول كذلك: "وما هي أرض الدين؟ أرض الدين هي تلك الأمة التي أعمى الاستبداد بصرها وبصيرتها وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدهما المشروع أضر على الأمة من نقصهما... نعم، الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقاً فطرية لم تفسد، فينهض بها كما نهضت الإسلامية بالعرب، تلك النهضة التي نتطلبها منذ ألف عام عبثاً... التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين. وجعلتُ الدين فرعاً لا أصلاً، لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقروناً بالتمرين. والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه، فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعاً لفقده في النفوس...".[22]
أما في ما يخص الدين، فيقول: "إنما أريدُ بالإسلام: دين القرآن، أي الدين الذي يقوى على فهمه من القرآن كل إنسان غير مقيد الفكر بتفصّح زيد أو تحكّم عمرو... والدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع... فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والرفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها. دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي: فلتحيَ الأمة، فليحيَ الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء".[23]
وفي أهمية عدم التمييز بين الأديان، يقول:"يا قوم، وأريد بكم شباب اليوم، رجال الغد، شباب الفكر، رجال الجد، أعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان، وأعيذكم من الجهل، جهل أن الدينونة لله، وهو سبحانه وليّ السرائر والضمائر، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة[24]"[25]
وفي فصل السلطات، يقول: "مبحث التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم: هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخص واحد، أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان، ولا إتقان إلا بالاختصاص، ولذلك لا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة".[26]
ما أحوجنا إلى أن نأخذ بما توصّل إليه الإمام عبد الرحمن الكواكبي من فكر علماني نيّر![27]
أما المفكر شبلي الشميل (1850-1917)، فقد أراد أن ينهض، بمجتمعه العربي، علمانياً، بالتأكيد على أهمية العلوم الطبيعية والفلسفة المادية، إذ إن العلم هو غاية التطور في المجتمعات، بشكل عام. عرف عنه بأنه من أصحاب الاتجاه العلماني في النهضة والإصلاح، مقابل الاتجاه الديني في النهضة والإصلاح في الوطن العربي وقتها. أجرى الشميّل المقارنة بين أوروبا قبل الثورة اللوثرية وبعدها، فتبيّن أن "النهضة التي حصلت لأوروبا في الملاحة والفلاحة والصناعة والتجارة إنما مردّها إلى تلك الثورة الدينية التي فكّت العقل من بعض قيوده".[28] ويرى الشميّل أن المجتمعات يمكن لها أن تصلح من غير الدين، ومن غير تدخّله في إدارتها وسياستها. كما يعدّد مساوئ تدخّل الدين في السياسة، من حيث تسبّبه في تأخر الأمم وتعصبها وتباغضها، ومن حيث الحروب التي سبّبها بين الأمم؛ ويُظهر كذلك تقييد الدين لحرية الفكر. لقد كان شبلي الشميّل مفكراً جريئاً بإصراره على فصل الدين عن الدولة. كما أنه تنبّأ بأن دور الملوك ذوي الحكم المطلق والشمولي سوف ينتهي تماماً في أوروبا، بعد التطور الذي وصلت إليه. ومن الجدير بالذكر، توقّعه لثورة مستقبلية، وهي ثورة العمال والمفكّرين على فساد الحكم واستئثار رجال المال بالسلطة.
بدءاً من أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أصدر السلطان محمود الثاني ما سُمِّيَ آنذاك "بالتنظيمات"، وهي قوانين، حاول السلطان العثماني من خلالها فرض المساواة، في الحقوق والواجبات، بين مواطني السلطنة، بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو قوميتهم... فأضحى بإمكان غير المسلم المشاركة في الحياة الثقافية والاقتصادية، إذ سُمِحَ له بارتياد المدارس لتعلّم اللغات العربية والأجنبية. كما أنه تمّ إعلان المساواة أيضاً بين المسلمين وغير المسلمين في منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، وكان ذلك يدعى ب "الخط الهمايوني"! في هذا الجو، وبالرغم من تراكم تاريخ من الاضطهاد، لا شكّ بأن المعلّم بطرس البستاني والمفكّر شبلي شميّل وغيرهما من روّاد النهضة العربية قد كان لهم دور تنويريّ واسع، جعل مسيحيي المشرق يحملون شعلة المشرقية المتنوّرة الهادفة إلى ترسيخ مفهوم المواطنة في الدولة العَلمانية الحيادية.
ويُعَدّ فكر علي عبد الرازق، (1888-1966)، امتداداً لفكر الشيخ محمد عبده، وقد رأى بعضهم أن كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، المنشور في العام 1925، هو دعوة واضحة لفصل الدين عن السياسة. وقد قال في موضوع الخ
اقرأ أيضاً |